الأهرام
أسامة سرايا
لا يزال يسارك ملهماً!
رحل عن عالمنا رجل استثنائى فى تاريخنا المعاصر. كان من كبار صناع الجمهورية المصرية. لم يصل إلى منصب الرئيس أو رئيس الوزراء كأقرانه من الضباط الأحرار، ولكنه وصل إلى نفس مكانتهم. إنه الراحل الكبير خالد محيى الدين. ولا أكتب عنه اليوم رثاء أو تأكيدا لمكانته الكبيرة، فقد سبقنى من هم أجدر منى، وهو ملء السمع والبصر، وقد تحلق حوله كثير من بنى وطنه، فهو من صناع أكبر المدارس السياسية، وظل حتى وفاته العراب أو الرائد لليساريين المصريين والعرب، وكان بحق كبيرهم، رغم صعوبة وقسوة هذه المهمة عبر السنوات والتغييرات الصعبة.

ومكنته جدارته من لعب هذا الدور الخطير فى حياة تلك المدرسة المهمة فى تاريخ مصر السياسى، فحافظ على هويتها، ومنعها من التفكك أو التشرذم أو التحول إلى ما لا يحمد عقباه، مثلما رأيناه من الإسلاميين, الذين لم يجدوا شخصا مثل خالد محيى الدين، يقودهم إلى بر الأمان حتى يكونوا إضافة لوطنهم، وليس عبئاً أو انهياراً أو تطرفاً أو إرهابا. وقد كان يمكن أن يحدث ذلك، فتتعرض سلامة الوطن للخطر، ولكن خالد محيى الدين، السياسى الملهم، كان يعرف دوره، فحمى اليساريين، وجعلهم إضافة للحياة السياسية المصرية، وليس عبئاً عليها.

وعندما مرت التجربة الاشتراكية بمحنة السقوط العالمى، واهتزت قلوب اليساريين مع انهيار الاتحاد السوفيتى وأوروبا الشرقية، كان خالد محيى الدين، ومعه العقل اليسارى المصرى، قادراً على صياغة الرؤية من جديد وتمصير يساريتهم، إذا جاز التعبير، فأصبحت رصيداً للعدالة الاجتماعية، وحماية للطبقات الفقيرة فى المجتمع مع ربطها بقيمنا الدينية والشرقية.

فأصبحت رؤية جديدة تحسب لهذا القائد السياسى المتطور مع الزمن، والذى لخص فكرته وصاغها بروح سوية ومعاصرة، فحولها إلى رصيد وطنى غنى لبلاده، فلا تستطيع أى حكومة مصرية الآن، أو فى المستقبل، أن تحافظ على الوطن دون أن تضع على رأس أولوياتها حقوق تلك الطبقات الفقيرة، ونرى ذلك فى المساكن الاقتصادية، واجتثاث العشوائيات، أو فى السعى إلى التعليم الشامل والصحة العامة. وكل هذا جاء من التجاذب والحوار والتمازج فى الرؤية التى خلقها اليسار، وجذرها فى المجتمع المصرى، عبر نضال حقيقى، وعمل سياسى ملتزم وأمين مع المجتمع.

ولذلك، اقول له: لقد أعطيت وطنك وأهلك ما هو أغلى من كل المناصب التى كنت تستحقها ولم تحصل عليها، ولكنك تحصنت برؤية، وآمنت بفكرة، وعملت على تحقيقها، فحق لنا أن نقول لك فى يوم رحيلك إن إشعاع رؤيتك كان صادقاً، ولذلك سوف يعيش، ويكبر مع الأيام، وسيكون جزءا أو مكونا من حركة أى حكومة، أو أى مسار سياسى فى بلادنا إلى أن نقتلع الفقر من بر مصر كاملا.

ولذلك فإن يسار خالد محيى الدين قد يتأثر بغيابه، ولكنه كان قد جذر المسار، وأبعده عن الميليشيات أو الخلايا السرية، وجعله عملا سياسيا جاذبا للناس، وتلك، والله مكرمة كبيرة يا سيد خالد، يجب أن يتذكرها كل أهلك فى مصر، سواء كانوا يساريين مثلك أم من مناوئى الفكرة، واعتبروها نباتا غير مصرى، زرع ونما فى خارج الوطن، فقد استطعنا، نحن الذين رفضنا الفكرة وتصورناها ضد تاريخنا الفكرى والسياسى، وعدنا إلى إنتاج السلع والخدمات، كحق للقطاع الخاص، كشريك للقطاع العام، ولكننا لم نستطع أن نواجه جذور حقوق الفقراء والعمال والفلاحين فى المساواة، وفى العدالة الاجتماعية.

وبمناسبة رحيل خالد محيى الدين،أحد ضباط الثورة المصرية الأحرار الذين عمقوا قيم الجمهورية فى مصر نقول له، إن ثورتكم كانت جديرة بوطن عظيم كمصر، وإنكم كنتم مخلصين فى حق الوطن، وحين تعرض الوطن معكم لهزيمة كبيرة عام 1967 استطعتم تجاوز الهزيمة، وتحقيق النصر عام 1973، واسترداد الأرض كاملة، وأضفتهم إلى مكارم الثورة قيمة مضافة أخرى هى السلام الذى فتح للشرق العربى والأوسط بابا واسعا للتغيير والتعايش مع العالم والمجتمع الدولى، كما فتح مجالا واسعا لاسترداد الأراضى العربية المحتلة، ومحاصرة إسرائيل فى حدود معينة، بعد أن كانت قد استغلت حالة الحرب والعداوة والكراهية لفرض التوسع فى المنطقة العربية.

ولذلك حق لنا أن نقول إن حالة التكريم والوداع لخالد محيى الدين يوم رحيله كانت مستحقة، فقد بدت الجمهورية الراهنة فى تسجيل احترامها لجمهورية يوليو 1954 بإطلاق اسم قائدها محمد نجيب على قاعدة عسكرية، وبنعى ومشاركة رئيس الجمهورية فى توديع الرجل، يضع لبنات قوية لجمهورية نعيش فى ظلها، فنبنى قيما صادقة تعيش مع الزمن، وتظل ملهمة ومتجددة لأجيال قادمة.

ولذلك حق لنا أن نرى فى تجربة السياسى والضابط والصحفى والمفكر خالد محيى الدين معانى تتجدد وتلهم عبر الزمن، وتعيش للأجيال القادمة، وتولد رؤى متجددة، فالفكر عندما يصدق يصبح أخلد من المبانى والمشروعات، فهو الذى يخلق البناء المادى، ويكبر المجتمعات، ويبنى المصانع، ويولد السلع والخدمات. تحية لرجل عظيم بكل المقاييس.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف