الأهرام
أنور عبد اللطيف
منحدر الصعود بين مبارك ومهاتير
المكان: قاعة محكمة أكاديمية الشرطة، الزمان: السبت 14 أبريل 2013، دقت مطرقة القاضى فبدأت الجلسة، وابتسم المتهم فى القفص بعد أن ظل مكتئبا طوال تسع وأربعين جلسة على مدى عامين، ظل طوال الفترة المذاعة من تلك الجلسة المخصصة لإعادة المحاكمة يتبادل الهمسات مع الوريث، الذى وقف سعيدا الى جواره بملابس الاتهام التى كانت لا تزال بيضاء،لا يشعر الرئيس «المتهم» بأى ذنب فى الأزمة التى قادت البلاد إلى 25 يناير، ووصلت ذروتها إلى تخليه عن منصب رئيس الجمهورية، وكليفه المجلس الأعلى للقوات المسلحة إدارة شئون البلاد فى 11 فبراير 2011، جلس الابن الأصغر تحت أقدام الوالد وعلى غير عادته بدا حريصا على ترك الكاميرا تتجول على راحتها، انطلقت عينا المتهم فى جنبات القاعة وبعد أن كان ممددا فى سرير التمريض، قعد الرئيس السابق فى نصف جلسة ، و«آن له أن يمد رجليه» ويتبادل الابتسام والتحية بالأيدى مع الجماهير فى البيوت وقاعة المحكمة، ربما سر انتعاشته ما وصله من أخبار الأزمات والغليان فى كل أنحاء البلاد ضد الحكم الإخوانى البغيض، لأنها توحى بأن نبوءته بالفوضى تتحقق، وكل الأوضاع تنزلق إلى الهاوية وأن الرئيس الاخوانى وجماعته شارفوا على النهاية!

تذكرت المشهد السابق بالضبط وبنصه كما سجلته وأنا أشاهد المتحدث باسم المفوضية العليا للانتخابات الماليزية يعلن الجمعة الماضى أن مهاتير محمد «صانع نهضة ماليزيا الحديثة»، يعاد انتخابه وصار بذلك أكبر رئيس منتخب فى العالم!

وقف مهاتير محمد متسندا وسط حشد من أنصاره وهو يتشعبط بيديه فى أيدى المحيطين به ولا تكاد ساقاه الواهنتان تحملانه، تتصدر وجهه ابتسامته المتواضعة القديمة وعينان العميقتان ظلتا مألوفتين لكاميرات النجاح والتصوير حتى عام 2003 حين غادر الحكم طواعية، لم تهتز ثقته فى شعبه بسبب القضايا التى لفقت له على طريقة العالم الثالث، وطوال الـ 18 سنة التى قضاها بعيدا عن كرسى الحكم لم يغب عن عيون العالم وظل يشرح تجربته لمن يرغب، آخر مرة شاهدته كان فى مكتبة الإسكندرية عام 2015 حين دعاه العالم الجليل إسماعيل سراج الدين ليلقى محاضرة تلخص حكاية نهضة أمة، ووقفنا على الجانبين فى انتظار المارد الآسيوى صاحب التجربة العريضة تاركين المقاعد، ودخل الرجل العجوز بقامته البسيطة ووجهه المتسامح وابتسامته الهادئة وظلت القاعة تدوى له بالتصفيق لعدة دقائق حتى تبوأ مقعده من المنصة، ثم كانت محاضرة لا أنساها من فيلسوف ورجل سياسة وصاحب تجربة ورؤية ماليزيا 2020 التى قادت نهضة البلاد حتى بعد تركه السلطة!.

والفارق كبير بين حالة البشاشة والثقة التى ظهر عليها مهاتير محمد بعودته للسلطة وحالة البشاشة على وجه الرئيس الأسبق مبارك داخل القفص عندما شعر بدنو أجل الإخوان وأنه قد يضع قدمه على منحدر الصعود!

أولا: أن الرجلين من نفس الجيل تقريبا يفصل بينهما ثلاث سنوات فى العمر، فمهاتير ولد فى يوليو 1925 ومبارك فى مايو 1928، وثانيا: أن كلا منهما خاض حياة مهنية ناجحة حتى بلغ أشده فى عمر الخمسين تقريبا، فمبارك بدأ حياته ضابطا محترفا بالقوات المسلحة توجت بقيادته القوات الجوية التى شاركت فى نصر أكتوبر 1973 وقادته إلى منصب نائب رئيس الجمهورية، وعند اغتيال السادات صار مبارك رئيسا للجمهورية عام 1981، وكانت البلاد 40 مليونا تعانى أزمة سياسية حادة وتخوض حربا ضد الإرهاب، وحربا اقتصادية وبنية تحتية مهترئة وسياسة اقتصادية مرتبكة بين قطاع عام يترنح وانفتاح استهلاكى سداح مداح، أما مهاتير فكان من أسرة فقيرة باع الموز فى «كوالا لمبور» ليدخل كلية الطب وتخرج فيها جراحا ثم جرفه العمل السياسى وعضوية البرلمان واختير وزيرا للتعليم ثم انتخب رئيسا للوزراء عام 1981. وكانت بلاده 27 مليونا يعيشون فى الغابات ويعملون فى الزراعة والصيد وتعانى العنف والصراعات بين 18 ديانة!. لكن.. بينما ظل هاجس مبارك الأمن والهيمنة على كل السلطات وتحرير الاقتصاد فى دولة تعاقب على الانتصار فى الحرب بعد أن سلطت عليها عصابات الإرهاب والتطرف الدينى رغم تجانس الأديان، ظل هاجس مهاتير التأليف بين الديانات المتناحرة واستلهم تجربة محمد على المصرية ،فى وضع رؤية تنموية وخريطة للأولويات حتى 2020 ثم قرر أن يكون للتعليم والبحث العلمى الأولوية القصوى فى كل شيء!.

فكانت النتيجة أن الأول أجبرته ثورة أو غضبة شعبية على «تخليه» عن المنصب فى عمر الـ 83 بعد 30 سنة سلطة «المحكمة» فلاحقته الاتهامات وتدهورت البنية التحتية والصحة والتعليم وزادت الديون ومازلنا بعد «30 يونيو» نتكلم عن رؤية جديدة لإنقاذ التعليم، وجسدت خلاصة تجربته جلسة المحكمة التى تذكرتها، والثانى تقاعد بإرادته فى سن 78 بعد 22 سنة من العمل الشاق حتى صارت بلاده ماردا اقتصاديا فعاد بعد التسعين إلى منصة التتويج أو الوداع رغم وهن العظم منه واشتعال الرأس شيبا وفخرا بالديمقراطية!.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف