عبد الجليل الشرنوبى
رمضان وحماية الهوية المصرية
فى سبعينيات القرن الماضي، كانت مصر المؤمنة لا تزال تفرش إيمانها براحاً فى النفوس، ويعلو صوت أذانها محبة فى القلوب، ويهِل هلال رمضانها فتستحيل موائدها على رقة حالها عماراً بغموس من رضا عامر نكهات متعددة للوطن، كانت الحياة أرحب على قلة تطورها، وكان للدهشة فى الوعى رعاشته، وكان للدين فى القلوب أَلَقُهْ، ويسرد واقع تلك الأيام الخوالى قصة كان مسرحها (عِزْبَةْ) صغيرة، يعرفها الطريق الواصل بين مركزى (دمنهور ــ شبراخيت) بتقاطع أشجار جانبى الطريق، ومئذنة مخروطية صفراء للمسجد العتيق، تعلو فوق ارتفاعات أشجار مدخل (العزبة). كان المسجد قِبلة لأهل (العزبة) يوم الجمعة، وكان للمسجد مقيم شعائر من الأهالي، يقوم بدور الإمام، حيث يحفظ أربعة نصوص لخطب الجمعة تتابع بانتظام على مدى كل شهر، وصار الاتفاق غير المعلن بين جمهور المسجد وإدارته هو أن يؤدى مقيم الشعائر خطبة الجمعة كاملة حتى يصل إلى قوله (وأقم الصلاة)، لتكون تلك هى كلمة السر فى بداية دور الجمهور، الذى يقضى وقت الخطبة خارج المسجد يقضى شئونه ويمارس طقوس حياته بيعاً وشراءً واتفاقاً على عمالة (الأنفار) وحلاقة. واستمر هذا الوضع حتى كان أن استقدم عمدة القرية (شيخاً شاباً) من أبناء أحد شيوخ المحافظة المشهود لهم بالعلم ليكون إماماً للجمعة. فى أول جمعة للشيخ الشاب، وبعد صعوده المنبر اكتشف أن الأعداد الغفيرة من أهالى القرية الموجودة خارج المسجد لم تدخل، نزل الشيخ الشاب درجات المنبر الخشبى المنحوت مثمنات متعاشقة، واتجه إلى خارج المسجد مستدعياً الجمهور للخطبة ومنهياً عصر الاتفاق القديم، كانت الخطبة الأولى فى رمضان، وبعدها اتجه إلى الشيخ الشاب أحد عموم الفلاحين، أثنى على الشيخ وبدأ الحوار (الله يفتح عليك يا مولانا، كان عندى سؤال، إذا جامعت زوجتى فى نهار رمضان ثم عدت إلى العمل فى الحقل دون اغتسال فهل هذا يجوز ولا علشان رمضان الواحد لازم يستحمي؟)، وحل الطير على رأس الشيخ الشاب، السائل كل قضيته هل يؤخر الاغتسال أم لا احتراماً لرمضان، ولا يشغله من قريب أو بعيد أن أتى فعلاً ينقض الصيام، واكتشف الشيخ الشاب أن عليه أن يبدأ فى تعليم الناس الأسس الأصيله للعبادة، لكنه أدرك أنه أمام قومٍ ينبغى أن يتوافق تدرجه فى بساطته مع بساطة إيمانهم ومضى يمارس رسالته.
من سرد واقع الأيام الخوالي، تحملنا أيادى التدبر فى تفاصيل الواقع الحالي، إلى البحث عن ذلك الإنسان المصرى الذى انطلق من سهولة تفاصيل إحساسه بالوطن إلى رحابة الإيمان الفطري، متجاوزاً بإحساسه شكل العبادة طقساً إلى جوهرها تعايشاً بناءً، وفى إطار هذا البحث عن ذلك الإنسان المصرى ينبغى أن نضع فى الاعتبار أن هذه السمات الفطرية المصرية كانت قبل أن يدخل عالمنا عصر الانفتاح المعلوماتى بعدما كان قد خطا خطواته نحو الانفتاح الاقتصادى والتطبيعى وما استتبعه من عبث بمكونات الهوية الفطرية للإنسان المصري. لقد تعرض الوعى الفطرى للمصريين خلال أربعة عقود ولت لعملية إعادة صياغة للهوية بما يتناسب مع مشاريع التذويب المحدقة بالمنطقة، ولا بد فى هذا الصدد من الإشارة إلى دور تنظيمات الدين السياسي، وما مثلته بجناحيها السلفى والإخوانى من أبواق لخطاب دينى ينطلق من أدبيات البعث الإسلامى التنظيمي، مستخدماً النص القرآنى بما يدعم إعادة تخليق العقيدة فى النفوس وفق معايير تناسب أوطاناً افتراضية يقطنها مواطنو هذه التنظيمات، ويعملون عبر كامل أدواتهم على توسيع الحواضن الشعبية لعقيدتهم، ولنَّا أن نتخيل أن السائل فى قصتنا التى بدأتها هذه الحالة، بعدما تعرض لرياح أفكار تسللت إلى وعية عبر تسجيلات الشيخين (عبد الحميد كشك ــ أحمد المحلاوي) فى الثمانينيات، ثم سلاسل وجدى غنيم نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، ومن بعدها إصدارات عمرو خالد وأبو إسحاق الحوينى ومحمد حسين يعقوب، وغيرها منذ بداية الألفية الجديدة وحتى الآن، و عندما نعيد تقديم هذا الشخص ليسأل نفس الشيخ فربما نكتشف أن سؤاله سيكون من عينة هل يجوز أن يتم الاعتداء على الصائمين القائمين فى محاولة لإحياء قضية رابعة؟، أو لماذا يا شيخنا بارك الله فى علمكم لا تطلقون لحيتكم؟، أو ما حكم الصيام إذا دخلت فى حلق الصائم ذبابة؟. ونحن على أعتاب شهر المحبة فى الوعى المصرى (رمضان)، يطرح الواقع المأزوم على ذواتنا سؤال المصير، لماذا تخلى كل معنى بالمستقبل سواء أكان رسمياً أو مستقلاً، عن مهمة حماية الهوية المصرية واكتفى الجميع إما باستثمار تجريفها، وإما بنقد ما أفرزه التجريف من عوار؟، ولتكن دعوة مفتوحة لإفطار وطنى جامعٍ واعٍ، مأدبته تؤمن بطول صيام المواطن عن تذوق مفردات الوطن التى هى حق طبيعي.