التحرير
د. مجدي العفيفي
المصباج النسائي.. «9»
وتتوالى صورة المرأة عند يوسف إدريس في قصصه القصيرة، ونواصل اليوم استدعاء بعص الصور التي تثير الأسئلة المسكوت عنها، وتنزع الأقنعة التي تلتصق بها الوجوه، وتكسر القشرة الصلدة التي تخبئ الكثير والمثير..
ويختلط عنفوان الأنوثة بملامح الأم في شخصية المرأة، في قصة (دستور يا سيدة) وربما تطغى معالم الأمومة على متطلبات الأنوثة، وقد تتداخل الخاصيتان، وأحيانا تتشابك براءة الطفولة وقهرها كجذور في الحالتين، وأحيانا أخرى تتماس المشاعر المتمردة مع جماليات الأنثى وحكمة الأم وخبراتها، لكن المرأة في صورتها الشاملة تتماهى مع الحياة بكل غموضها وتجلياتها وانكشافها واستتارها، فالوحدة القاسية وتداعياتها المؤلمة تدفع بطلة قصة (دستور يا سيدة) إلى استذكار أنوثتها التي توارت خلف أمومتها، فتجلت الأخيرة سافرة في عمرها الذي قضته وحيدة بعد موت زوجها في عنفوان شبابها، واقتربت هي من الخمسين، وصارت جدة للمرة الرابعة، وقد أوقفت حياتها على أولادها حتى صاروا من ذوي المراكز المرموقة في المجتمع، تعيش وحيدة، في بيتها بحي السيدة زينب بالقاهرة. سعادة الاكتفاء موجودة ولا حد لها.

المهمة تمت بنجاح ساحق رغم أن المرحوم مات في ثلاثة أرباع الطريق، والجميع يتوجونها أمًّا مثالية، وتلعب المصادفة، المخطط لها في نظرها، دورا في التقائها بشاب في ربيع العمر، يتقابل مع بداية خريفها، فيتساوقان في علاقة بدأت، ظاهريا، بانبعاث عاطفة الأمومة المحروم هو منها، مع إيقاظ الأنوثة التي حبستها في سجن عمرها مبكرا، لتتعدى حدود اللحظة إلى ما هو أبعد من ذلك.

حاول الاثنان أن يقاوما، هي استعانت بأولياء الله ومشايخه، وبالسيدة، وبصبرها الذي طال عشرين عاما، وبابتسامة أبيها الحنون، بأمها المرحومة ذات العشر حجات، بالفاتحة وآية الكرسي وكل ما يطرد الشياطين (وهو استعان) بشيخ طريقته وتعاليمها، وكل ما تراكم في ذاكرته من أوامر ومحرمات، ولكن جوع الجلد إلى الجلد، جوع الضلوع إلى الضلوع، وظمأ الفم إلى الفم، كان هو الذي كل مرة ينتصر، ويقهر، ومهما كانت الردود وفعل الردود، والإقدام مرة والخجل مرة، بحضور تاريخ طويل من النواهي والأوامر مرة، واختفائه خلف قوانين الحياة العظمى مرة أخرى، حين يبدأ يتصرف كشاب فتنهره كأم، وبها حين تضمه مؤملة أن تسكته بأمومتها فتتحول الأمومة بفعل النار الموقدة إلى أنوثة، بالأربعة معًا: الابن والأنثى والأم والشاب، في صراع لا رحمة فيه بين بعضهم وبعض، وبينهم بين أشباح الآخرين الحاضرة وأشباح غابت ومقدسات لها مفعول الأزل، بهذا كله ترتفع الحرارة حتى يتشعب اللهب، وعلى لهيبها تحترق أشياء كانت لا تقبل الاحتراق، وتذوب النواهي، ويذوب كل ما كان وكل ما سيكون، ولا يبقى سوى المرأة المحتمية بالأم فيها، والابن التائه يبحث عن أنثاه المختفية داخل المرأة الأم.

وتصور قصة (أكبر الكبائر) سقوطا آخر تحت ضعف إنساني تمثل في الاستجابة لغريزة الجنس لدى (الشيخة صابحة) زوجة (الشيخ صديق) الذي (تروحن) وأصبح مجذوبا، منذ أن جاءته (الطوفة) فجعلته يبدأ يغالي في التدين وصلاة الضحى والتراويح ويسير الليالي في الموالد ويجعل من نفسه إماما للذاكرين، ويؤمن بتلك الطريقة الدمرداشية، ويحدث زوجته عن الوصول، والسادة والأولياء والإمام الغزالي وكبار الواصلين ويفرض عليها الطرحة البيضاء والسبحة.
كان ذلك هو الدافع الخارجي والمبرر لديها، إلى جانب المؤثر الداخلي المتمثل في الجذبة الجسدية التي تعتمل في نفسها فتنظر نظرة شهوانية إلى رجال القرية.

وتتبلور أزمة (شهرت) في قصة (قاع المدينة) كشخصية مركزية تحركت عليها محاور الحكاية والخطاب، في حاجتها الملحة إلى إطعام أولادها، فزوجها عاطل، وبيتها دائما في حالة عوز، فذهبت لتعمل خادمة في بيت القاضي عبد الله، الأرستقراطي العزب الذي أسقطها في وحل الخطيئة، وانساقت هي معه تحت وطأة الحاجة إلى المال، وما كانت قبل ذلك تسلم نفسها ولا تبيع جسدها لعابر سبيل.

وتبدو المفارقة في الصورة التي ترسمها القصة لشخصية فاطمة بطلة قصة (حادثة شرف) كشخصية مركزية، مرتبطة بهذا الحدث، برؤية من الخلف، يحيطها الوصف الداخلي الباطني كشفا لأعماقها التي تنزف من جراء الشك في شرفها، والكشف المعلن على عذريتها، على مسمع ومرأى من مجتمع العزبة الضيق الذي يحاصرها كفتاة هي الأجمل.

وكانت فاطمة تثير الرجال، أو على وجه الدقة تثير الرجولة في الرجال، حتى الأطفال كانت تثير الرجولة الكامنة فيهم، ثم هي تعرف العيب تماما، وهي لا تفعل العيب وليس في نيتها أن تفعله، بل هي تفضل الموت على فعله. لكن فاطمة فقدت ملامح كثيرة من هذه الصورة البريئة الجميلة، بعد حادث التأكد من غشاء بكارتها وبراءتها، وهي التي لم تكن أبدا ذات سيرة خبيثة أو سلوك معوج، فقد عرفت فاطمة عازفة عن الدنيا لا تريد الخروج، والحيوية المتدفقة التي كانت تبرق في عينيها وخدودها ولفتاتها كأنها نضبت فجأة.
ثمة قوة قاهرة ونداء خفي في الأعماق البعيدة، وهواجس لا تتوقف، وأعاصير من الأحاسيس الجوانية لا ترحم شخصيات قصص يوسف إدريس، تتماثل تحت قانون الذكر والأنثى، تنضوي له خضوعا باطنيا واستسلاما ظاهريا، وكما تبدى في قصتي "دستور يا سيدة"، و"أكبر الكبائر"، فإنه يتبدى أيضا في قصة (النداهة) مع فتحية، وإن اختلف الأمر قليلا، فهي لم تتقبل واقعة الاغتصاب من الأفندي القاهري، إلا كشفا للمجهول الذي ظل يراودها ويهاتفها بعمق ولا يتوقف منذ وجودها في القرية، واستمر معها في قلب المدينة، في قاعها وفي قمتها، على حد سواء.

يبدأ الحدث في قصة (النداهة) من الذروة كاشفا أعماق لحظة مشحونة بالذعر والرعب والدهشة، كثفها في أزمة اعتصرت فتحية وزوجها حامد وبينهما الأفندي الذئب، اتخذت فتحية من حامد وسيلة للوصول إلى تحقيق حلمه، ولم يكن سقوطها الجنسي هو مصدر العقدة والأزمة داخلها، بقدر ما كانت المفاجأة الصاعقة لحدوث الحدث في حد ذاته، لقد أرادت فتحية أن يكون سقوطها سقوطا خاصا، ومن هنا كان هول المفاجأة التي لم يذكرها الهاتف، لقد استسلمت استسلام المستمتع، قاومت فتحية بحكم قانون الغريزة.. (فللغريزة الحارسة سلطان على الجسد أقوى من أي سلطان آخر) قاومت فتحية بتململ جسدها ليس إلا، (مقاومة لم تفعل أكثر من أنها مكنته تماما منها حتى أصبح كل جزء فيها ملتصقا وملتحما بكل جزء فيه) وبآخر ما تملك أيضا تململت، وبكل ما يملك أطبق (فلم تصرخ تستنجد بالناس أن يقاوموا لها ولكنها رفضت، فالمعركة معركتها وحدها، ولن يفعل إدخال الناس أكثر من فضحها، إذ السهم الآن نافذ فعلا، والمكتوب قد حدث، وقد يمنع الناس استمرار حدوثه ولكنهم أيضا سيكونون شهود حدوثه، وتلك هي الكارثة التي تواجه الموت، أو السقوط الخاص الذي لا يعرفه أحد، ولا تواجهها).

لكن النهاية المفاجئة جاءت متمثلة في أن "حامد" لم يقتل زوجته التي ضبطها متلبسة، ويكتب نهاية للحدث، فالذي وضع النقطة الأخيرة فتحية نفسها، وهم كعائلة في طريقهم عائدين إلى قريتهم، فغافلته في ازدحام القادمين والراحلين في باب الحديد، وهربت، عادت إلى (مصر) بإرادتها هذه المرة، وليس أبدا تلبية لهتاف أو نداء نداهة (القصة، ص 36).
في قصة (بيت من لحم) يقدم يوسف إدريس رؤية مغايرة للدوافع والأسباب والنتائج، وإن كان النداء الخفي لا يزال رابضا في نفس الأم الصامتة على الجريمة الجنسية، فلم تنتفض هالعة واقفة صارخة، كان ممكنا أن تجن، كان ممكنا أن يقتله أحد، فليس لما يقوله إلا معنى واحد، ما أغربه وأبشعه من معنى، ولكن غصة خانقة حبست كل هذا وحبست معه أنفاسها، سكتت بآذانها التي حولتها إلى أنوف وحواس، وعيون راحت تتسمع الأنفاس الثلاثة وهي تتعالى عميقة حارة، كأنها محمومة ساخنة بالصبا تجأر، تتردد، تنقطع، أحلام حرام تقطعها أنفاس باضطرابها تتحول إلى فحيح، فحيح كالصهد الذي تنفثه أراض عطشى، والغصة تزداد عمقا واحتباسا، إنها أنفاس جائعات ما تسمع، بكل شحذها لحواسها لا تستطيع أن تفرق بين كومة لحم حي ساخنة متكومة وكومة أخرى، كلها جائعة كلها تصرخ وتئن، وأنينها يتنفس ليس أنفاسا، ربما استغاثات، مستحيل أن تنسى مذاقه، جائعات وهي التي كانت تخرج اللقمة من فمها لتطعمهن، هي التي كان همها حتى لو جاعت أن تطعمهن، هي الأم، أنسيت؟ وألح مهما ألح تحولت الغصة إلى صمت، الأم صمتت، ومن لحظتها لم يغادرها الصمت. وفي نفس الاتجاه يؤكد الزوج الكفيف الجاني لنفسه أن شريكته في الفراش على الدوام هي زوجته وحلاله وزلاله وحاملة خاتمه، تتصابى مرة أو تشيخ، تنعم أو تخشن، ترفع أو تسمن، هذا شأنها وحدها، بل هذا شأن المبصرين ومسئوليتهم وحدهم، هم الذين يملكون نعمة اليقين، إذ هم القادرون على التمييز، وأقصى ما يستطيعه هو أن يشك، شك لا يمكن أن يصبح يقينا إلا بنعمة البصر، وما دام محروما منه فسيظل محرومًا من اليقين، إذ هو الأعمى، وليس على الأعمى حرج، أم على الأعمى حرج؟ (القصة، ص11).

ثمة مجموعة من الصور الأخرى للمرأة، وهي صور ذات وضعية خاصة، تأتي عرضا، في سياقات متغيرة مثل شخصية (خديجة) في قصة (جمهورية فرحات) التي كانت ضمن الواقفين تشكو مما حدث لها من أهل طليقها ومحاولة إسقاط حملها، فترسم قصة (مشوار) شخصية (زبيدة) المجنونة التي كلف العسكري شبراوي بإرسالها إلى مستشفى الأمراض العقلية في مصر.
وكثيرة هي النماذج النسائية التي تعيش ضائعة على حافة المجتمع، إلا من الطموح ولو كان وهميا.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف