الأهرام
منير عامر
فى ضرورة الصوم عن الكذب السياسى
يظل اقتراب رمضان هو تجربة عملية للتعرف على المزاج النفسى للجموع، ويهبنا القدرة على قياس المسافة بين الادعاء وبين السلوك الواقعي, فمن يستغرقهم الإحساس بالتقصير نجدهم يندفعون إلى ما يتصورونه فعلا للخيرات فيستجيبون لهجمة إعلانات الحث على البر وفعل التبرع لتلك المشاريع العملاقة لرعاية الضعاف, سواء المستشفيات أو الجمعيات الخيرية. ويبدو أننا جميعا نسقط من الحسبان هذا الخير العام الذى نتمناه وهو المجتمع المتآزر سياسيا واجتماعيا فى إطار متقدم على المستوى الإنساني.

ويسافر خيالى عبر قفزات تاريخية متسائلا: لماذا لم نستطع الوصول إلى الاتساق المجتمعى المتيح لأفراده التقدم دون التناحر؟ وأجد نفسى فى مواجهة ما بقى فى الوعى منذ ثورة 1919 التى حلمنا فيها بميلاد تنظيم سياسى قادر على تخليص الواقع من أدران الاستعمار الإنجليزى وبقايا التحكم العثمانى سواء على مستوى السلوك والعادات أو على مستوى القرار السياسي, فلم نستطع التخلص من الاستعمار, أو أدران التحكم العثماني، رغم نجاحنا لبعض الوقت فى بلورة ميلاد حزب الوفد الذى أجاد فى بداياته قراءة أعماق الأحلام ووضع لها طريقا تحجرت امامه عقبات قاسية تبدو ناعمة المظهر قاسية الباطن، مثل الحلم بالتخلص من الاحتلال الإنجليزي، ولكن ظهر من صنع تطوير الواقع الاقتصادى وهى عبقرية طلعت حرب الذى نظر إلى الواقع ليخرج آمالا غير محدودة بدءا من تأسيس بنك مصر إلى إنشاء مصانع المحلة للغزل والنسيج. وشاء الرجل أن يمسك بيد الخيال المصور فأهدانا استديو مصر ضمن عشرات الإبداعات التى تصل بنا إلى التقدم.

ولكن التقدم على المستوى السياسى لم يحدث فقد تشابكت حزمة أحزاب فى صراع لم يضمن التقدم بل أبقى التخلف كنتيجة لتعدد الولاءات, سواء الولاء للقصر الملكى أو للسفارة الإنجليزية, أو للغياب عن الواقع تبشيرا بإيقاظ الجثة التى تم دفنها, ولكنها عاشت كحلم ساذج وأعنى الخلافة الإسلامية التى لم تكن يوما إسلامية بل التحفت بالدين لتمارس فى الواقع أبشع صنوف استنزاف المجتمعات. وقراءة التاريخ العثمانى يمكن أن تصور لنا مشاهد قطع الرقاب على طريقة داعش وسبى النساء كما صورته المسلسلات التركية أو قتل البشر بالوضع على الخوازيق كما حكت روايات كازنتزاكس اليونانى صاحب زوربا. وبتراث تشبع ببعض ماكان من الأتراك تنازل حزب الوفد عن حقيقة ميلاده الشعبي, ليستولى على قيادته _ من وجهة نظرى الخاصة القائمة على التجربة المباشرة -قدر من الشخصيات التى نظرت إلى عموم المصريين كأتباع يمكن قيادتهم عبر الألفاظ الفخمة ومعاملتهم كجموع تؤيد وتهتف دون أن يكون لها حق إدارة الواقع، فلا أنسى تجربة العبث بأسعار القطن فى البورصة فى عام 1951 بما أتاح لعدد قليل منهم كسب الملايين برفع سعر قنطار القطن، ليبيع كبار رجال الحزب أقطانهم, ثم الهبوط بالسعر ليحرم صغار المزارعين من تحصيل بعض مما صرفوه على زراعة القطن، فشهدت قرية أبى حرائق أشعلها صغار المزارعين فى أقطانهم التى لو باعوها لما جاءهم عائد ما دفعوه فى رعاية النبات حتى أثمر. ولتأتى من بعد ثورة يوليو بما لها من زراعة عدل اجتماعى متسارع وتقديس لفكرة الولاء على فكرة الكفاءة، وكان أول تقديس لتلك الفكرة التى تقترب من الجريمة هى تولى عضو مجلس الثورة كمال الدين حسين مسئولية التعليم الذى سبق أن وضع أسس الارتقاء بها طه حسين الجليل الكريم, سواء بإدارته فنون ابتعاث المتفوقين ليعودوا مبدعين فى أرقى فنون البشرية من أدب وعلم، ولا يمكن فى بضع كلمات ان نوجز قدر الإبداع فيما أسسه طه حسين ولا قدر الهدر الذى قام به كمال الدين حسين عضو مجلس الثورة التى تركزت فيه ما يمكن أن نسميه إهدار العقل العلمى الذى لم يتكامل مع التقدم العلمى الذى شاءه جمال عبد الناصر بتأسيس المركز القومى للبحوث، فصار التقدم مقصورا على العلوم الطبيعية دون اهتمام بالعلوم الاجتماعية التى تدير العقل السياسى للمجتمع. ورغم الجهد الخلاب الذى بذله الثائر الضابط ثروت عكاشة من تأسيس لرعاية الفنون والآداب إلا أن الهوة الشاسعة التى تركها كمال الدين حسين كانت فرصة ليتسرب منها التطرف بعد هزيمة يونيو المريرة، وبعد أن تحقق النصر المعجز يتم هدر العدل الاجتماعى ويسقط السادات صريع التطرف فى عيد الانتصار الذى لم ليتحقق لولا الفصل بين فكرة الولاء للوطن لا للأشخاص.

ولن أحكى عن بدء تكوين رجال سماهم الراحل الكبير رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب, فقد قال عنهم إنهم القطط السمان وهم من تحولوا إلى حيتان شرسة بعد هدر القطاع العام وما أنجزته سنوات العدل الاجتماعى فى عهد عبد الناصر وتآكل وضع الطبقة الوسطى لتسقط من فوق غلاء شاهق فرضه الانفتاح الفاحش مع ركود تدخل الدولة فى التصنيع واستصلاح الأراضي. وعندما قام تحرك الشباب فى يناير 2011 لم يكن تحركا نابعا من تنظيم سياسى فترك الفرصة للمتأسلمين الذين عرضوا مصير مصر للإيجار سواء لتركيا أو لقطر، لكن الوعى بقيمة هذا الوطن أشعلت شموع الثلاثين من يونيو لينقذنا جيشنا البطل من سرطان التأسلم وتهدينا قيادته رؤية وسط مناخ شديد العتمة فى منطقتنا بفعل ما سمى الربيع العربى والذى كان فى جوهره خرابا شاء به الاستعمار أن يعود بأشكال منوعة.

ولا أظن أن بمصر مؤسسة قادرة على فحص ما جرى منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى الآن مثل مكتبة الإسكندرية التى أحلم بأن تهدينا دراسات واقعية عما مضى لنطل على المستقبل بعيون تملك خبرة عدم تكرار الخطايا والأخطاء، وتلك خبرة علمية وإيمانية نحتاجها تهديها لنا القدرة على الصوم عن الكذب السياسى.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف