محمد ابو الفضل
اللعبة السياسية لحماية مجاهدى «درنــة»
العملية التى أطلقها الجيش الوطنى الليبى أخيرا لتطهير منطقة درنة من الإرهابيين، أصابت دوائر كثيرة بالقلق، لأن هناك تصميما على غلق هذه البؤرة، كمركز رئيسى لتجمع متشددين من دول مختلفة، تمهيدا لفرض المزيد من سيطرة المؤسسة العسكرية.
القضاء على هذه البؤرة، ظل عصيا، بسبب جغرافيتها الصعبة، وساحلها المفتوح لتلقى مساعدات عسكرية، وسط حظر تصدير السلاح إلى ليبيا، واستقبال العناصر البشرية، وزيادة التمدد الذى أحرزه الإرهابيون فيها، ونجاحهم فى استقطاب أصوات قبلية مؤثرة.
قرار الاقتحام، جرى الصبر عليه طويلا، لحين تصبح الأجواء العملياتية مواتية، وتنضج الظروف السياسية. عندما طال الانتظار، تصورت جهات عدة أن درنة سوف تظل القاعدة التى تقلق الشرق الليبي، والمنغص الذى يؤرق الجيش الوطني، ورأس الحربة لتصدير الإرهاب إلى مصر، لأن المتطرفين صمدوا أمام عمليات التأديب الخاطفة التى وجهت لهم.
القدرات الكبيرة التى أصبح يمتلكها الجيش الليبي، ساعدته على عدم تأجيل قرار اقتحام درنة أكثر من ذلك. شبكة العلاقات الإقليمية والدولية المتباينة التى نسجها المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الليبي، منحته قوة سياسية مضاعفة. التوافق على ضرورة المضى فى استحقاق الانتخابات، قدم دعما مباشرا للعملية العسكرية، أو على الأقل قلّص مساحة التنديد بها.
النجاحات التى تحققت على مستوى فرض إرادة الجيش الليبى وسيطرته على مناطق كثيرة جعل الباب مفتوحا إلى درنة، وكسر حدة التردد الذى أجّل القيام بالعملية الشاملة، التى سبقتها عمليات نوعية متقطعة.
الحذر المتكرر، بعث برسالة خاطئة للمتطرفين فى درنة. حسبوا أن الدعم الذى يصل إليهم من دوائر مختلفة، فى الداخل والخارج، سيكون رادعا للجيش الليبى أو أى قوة إقليمية يمكن أن تفكر فى إنهاء أسطورة ما يسمى «مجلس مجاهدى درنة».
الجرأة التى تحلت بها العملية العسكرية، فرضت على متشددى المدينة، تغيير تكتيكاتهم، بناء على نصائح جرى تلقيها من داعمين للتيار الإسلامي، تيقنوا أن الاقتحام أصبح وشيكا. خسارة درنة تعنى القضاء على أحد أهم الأذرع القوية التى تمتلكها الميليشيات فى ليبيا. بالتالى التأثير سلبيا على ورقة مهمة تمتلكها جماعة الإخوان هناك.
محاولة قطع الطريق على دخول درنة، ظهرت ملامحه مع فوز الإخوانى خالد المشرى برئاسة مجلس الدولة الشهر الماضي. بدأت خيوط التواصل السياسى تتمدد نحو قوى مدنية وعسكرية، كانت الجماعة تناصبها العداء طوال السنوات الماضية. على أمل عقد تحالفات تطوى الصفحة الماضية القاتمة وتفتح صفحة ناصعة.
الخطة انطلت على البعض. تجاوبوا معها. أكلوا الطعم الذى ألقى إليهم عبر شخصيات عديدة. لكن هناك فئة كبيرة لم تنطل عليها المناورة، التى تكشفت معالمها مع الضجة المفتعلة التى صاحبت الحديث عن إصابة المشير حفتر بمرض خطير، قد يخرجه من المسرح الليبى برمته. من هنا جرت لقاءات وأعلن عن تفاهمات بين عناصر إخوانية وأخرى كانت فى خصومة سافرة معها.
عودة حفتر سالما، جعلت من وقعوا فى الفخ يحاولون الخروج منه سريعا، بحجج مختلفة. هناك من أصروا على المضى فيه لضمان وجودهم فى المشهد السياسى الذى يكاد يغرب عنهم. هؤلاء جميعا أصبحوا فى نظر الشعب الليبى غير مؤتمنين على بلدهم، لأنهم يغيروا ولاءاتهم كما يغيرون ثيابهم، بمجرد الحصول على فائدة مادية أو معنوية.
انكشاف ألاعيب هذه النوعية من السياسيين، قدم للمشير حفتر هدية ثمينة. عرف قطاع كبير من المواطنين أهمية الجيش الليبى كضامن للاستقرار. جاء قرار اقتحام درنة وسط ظروف داخلية مواتية، جعلته يحظى بتأييد شعبى كبير، وممانعات سياسية بدت قليلة.
فى الباطن، أخذت القوى الداعمة للمتطرفين على عاتقها التفكير فى البحث عن آلية لتحويل درنة إلى مأزق أمام حفتر، لأنها تعلم أن سيطرة الجيش الوطنى عليها يعنى سقوط أهم حصون الإسلاميين العسكرية، وتخفيض حظوظهم السياسية مستقبلا.
حيلة البقاء على الإسلاميين كقوة رئيسية فى ليبيا، من خلال بوابة درنة، جاءت من زاويتين. الأولى الإعلان أخيرا عن حل مجلس مجاهدى درنة، وتحويله إلى ما يسمى «قوة حماية درنة» بغرض إخفاء الصفة الجهادية عن الإسلاميين الذين تحصنوا فى مناطق كثيرة تابعة لدرنة، وتصوير الموقف كأن الجيش الليبى يقاتل مدنيين.
عندما يتصدى المتطرفون لقوات الجيش ويسقط ضحايا فى صفوف الجهاديين، يتم الترويج أنهم ضحايا من المدنيين وليسوا إرهابيين. فى هذه اللحظة تندفع آلة الدعاية التابعة لدول اعتادت دعمهم لتصب الغضب على الجيش، بذريعة أنه أسرف فى «قتل مدنيين».
الزاوية الثانية، تسير على خطين متوازيين. أحدهما التشجيع على عقد لقاءات بين قوى مختلفة. فى المغرب وداكار وباريس، بهدف الإيحاء بأن الإسلاميين رقم أساسى فى المعادلة الليبية، ومن الصعوبة تجاوزهم أو القضاء عليهم فى درنة وغيرها.
الخط الآخر، زيادة العمليات العسكرية الشرسة فى طرابلس، مثل تدمير مقر مفوضية الانتخابات، على أيدى ميليشيات إسلامية، تكون كفيلة يتوصيل رسالة تشى بأن عملية درنة يمكن أن تؤدى إلى خروج العناصر المتطرفة من هذه المدينة إلى منطاق أخري. وبدلا من أن يكون مركز الإرهاب مقصورا على درنة سوف ينتقل إلى مناطق مختلفة، مما يصعب السيطرة عليه، ويجعل من فكرة الانتخابات فى هذه الظروف حلما بعيد المنال.
تعميم الفوضي، يرمى إلى الحصول على مكاسب سياسية لجماعة الإخوان بصورة رئيسية، لأن خروجها خالية الوفاض فى معركة ليبيا، يقضى على طموحات من مازالوا يراودهم الأمل فى الرهان على هذه الجماعة، ورفضوا التوقف عن دعمها، وتجاهل أعمال العنف التى ارتكبتها أو وقفت خلفها أو حرضت عليها فى درنة وغيرها.
اللعبة السياسية لحماية هذه المدينة وترسيخها كقاعدة للإرهابيين، عملية مصيرية للقوى التى رعت الإسلاميين، بأطيافهم وألوانهم. التسليم بدخول الجيش الليبى بسهولة وفرض سيطرته على درنة، يعلن صراحة وفاة المشروع الذى أنفقت عليه دول كبيرة أموالا طائلة، يؤكد أن المؤسسة العسكرية بقيادة المشير حفتر قادرة على الوصول إلى طرابلس فى الخطوة التالية. يعزز فكرة أن الجيش هو الجهة الوحيدة الضامنة لوحدة الدولة الليبية.