تشبه رواية «مملكة الفراشة» بنية رواية «أصابع لوليتا» فى ملمح أساسى، وهو أن كلتيهما تقوم على المعارضة Parody، ولكن المعارضة فى «أصابع لوليتا» هى معارضة نقضية، أما المعارضة فى «مملكة الفراشة» فهى معارضة موازاة. فالبنية كلها فى «مملكة الفراشة» التى تقوم فيها حكاية «ياما» الفرماسيانة المدمنة للقراءة والغارقة فى الخيال الذى يَجرَّها إليه الواقع الافتراضى على صفحة الفيس بوك، توازى فى عناصرها أسطورة فاوست التى تحولت إلى أعمال إبداعية عند مؤلفين متعددين أشهرهم على الإطلاق الكاتب الألمانى جوته. وسواء قرأ واسينى الأعرج فاوست جوته أو غيره من كُتّاب العالم الذين أعادوا صياغة الحكاية الشعبية الألمانية عن الكيمائى الألمانى الدكتور يوهان ورج فاوست الذى حقق نجاحًا كبيرًا، ولكنه كان غير راضٍ عن حياته، فأبرم عقدًا مع الشيطان، يسلِّم إليه روحه فى مقابل الحصول على المعرفة المطلقة وكل الملذات الدنيوية. ويحقق له الشيطان هذه الرغبة، ولكن تنتهى هذه الصفقة بينهما إلى الخسارة وفقدان فاوست لأنقى وأصدق فتاة عرفها وهى مارجريت.
وقد صاغ هذه الحكاية الشعبية الألمانية جوته الذى صار على دربه كريستور مارلو وكلاوس مان، وتوماس مان، وكليف باركر، وأوسكار وايلد، وميخائيل بولجاكوف، وفريناندو بيسو، ومن العرب على أحمد باكثير فى فاوست الجديد وغيرهم من الكُتاب.
............................
وقد مضى واسينى الأعرج فى طريق هؤلاء مُعتمدًا على معالجة جوته على وجه التحديد، مُركِّزًا على الشخصية الانتهازية لكاتبٍ جزائرى يعيش فى المنفى «فادى» الذى يحقق من الشهرة ما يدفعه إلى طلب المزيد، فيَقبل عرض الحكومة الجزائرية وإغراءها له بعرض مسرحيته التى نجحت فى أوروبا «لعنة غرناطة» ويقع فى شِراك العرض كما وقع فاوست فى شِباك مفيستوفيليس، فتكون النتيجة هى خسارته للفتاة التى أحبته بصدق، وهى «ياما» التى حذَّرته من قبول عرض السلطة الجزائرية التى أرادت بدعوتها له أن تتجمل، وتُخفِى أنواع فسادها الذى زاد عن الحد. ولذلك كانت «ياما» صديقة الحدس عندما أطلقت على «فادى» منذ البداية «فاوست»، تمامًا كما أطلقت على والدها اسم «زوربا»، فقد خسرت والدها الذى لم تكن نهايته بعيدة عن نهاية زوربا اليونانى، كما خسرت حبيبها الذى باع نفسه لسلطة فاسدة كما باع فاوست نفسه إلى الشيطان. ولذلك ينتهى العرض المسرحى لـ «فادى» فى الجزائر إلى خسارة «ياما» التى صدقته كأنها مارجريت التى خسرها فاوست بصفقته مع الشيطان الذى أصبح فى الرواية موازيًا للسُّلطة الجزائرية. ولكن «ياما» تختلف عن مارجريت، فلا تنتهى حياتها بالموت أو الانتحار، وإنما تظل محافظة على إرادتها فى الحياة ورغبتها فى المُضى إلى الأمام، واعية درس أبيها الذى كان يحب الحياة كما كان يحبها شبيهه «زوربا»، فتنتهى الرواية ببقاء «ياما» حية، مُصرَّة على البقاء. وما كان لها أن تفعل ذلك إلا بحكم إيمانها بقوة الفن وقدرته السحرية على مواجهة الموت وفى بعث الإنسان من جديد لكى يمضى فى الحياة، وذلك على نحوٍ يؤكد أن الإبداع هو الحياة، وهو نقيض الموت على السواء.
هذه هى الدلالة الكلية التى تُعمِّقها فينا دوال الموازاة الرمزية البارودية (Parody) بين النَّص الألمانى والنَّص العربى. وكما يحدث فى كثير جدًّا من أشكال الباروديات العالمية، يحافظ المتأخر على الأسماء التى تَردُّ عمله المُعارِض (بكسر الراء) على العمل المُعارَض (بفتح الراء)، والأمر نفسه هو ما يحدث فى حالة الإشارة إلى الأب «زبير» بـــ «زوربا» اليونانى تلك الشخصية التى أبدعها نيكوس كازانتزاكيس اليونانى فى لعبة التسميات الأدبية أو الأقنعة الأدبية التى تُقنِّع بها الرواية وجوه أبطالها، ولكن الفارق أن الشخصية التى ترتدى قناع زوربا تموت غيلة على النقيض من شخصية زوربا اليونانى فى رواية كازانتزاكيس الشهيرة. لهذا السبب سوف نجد رواية «مملكة الفراشة» نسيجًا مشغولًا بعلاقات التناص التى تتخلل علاقات البنية فى نص الرواية كى نراها فى كل صفحة تقريبًا، وتلفتنا علاقات التناص بما يلزم عنها من تضمينات إلى نسيج الرواية نفسه، فنتطلع إلى نص الرواية عبر الصفحات، ونشعر بتميزه الذاتى وتتابع العلاقات التى تتكون منها بنيته، تلك التى تشُدُّنا علاقاتها كأنها زجاج مُعشَّق يلفتنا بألونه عن كل ما يقع وراءه، فنستغرق فى تأملِ تعاشيقه وعلاقاته الذاتية قبل أن نتطلع منه إلى العالم الواقع وراءه، والذى يشير إليه هذا الزجاج على جهة التضمن أو اللزوم.
هكذا نقرأ فى الصفحة الأولى جملتين منقولتين عن ألبرتو مانجويل فى كتابه عن «تاريخ القراءة» الصادر سنة 1996، يقول فيها: «وحدها القراءة كانت مُبرِّرى للبقاء، أو ربما لإعطاء معنى للعُزلة التى فُرِضت عليّ». وبعدها تأتى جملة أخرى للكاتب بوريس رايان (سنة 1936) تقول: «لم أُقاتل، ولم أهجر، ولم أكن عميلًا، بقيتُ على مدى أربع سنوات غبيًّا، مُصابًا بسوء التغذية مثل الكثيرين». والاقتباس الأول يشير إلى أهمية القراءة فى الحياة التى تحياها كائنات مثل «ياما» الجزائرية، سواء فى الجزائر أو غيرها، والجملة الثانية تشير إلى ما يشبه الغفلة التى وقعت فيها «ياما» عندما استغرقت فى أوهام أغرقتها فى «مملكة الفراشة» التى تُشبه نسيج العنكبوت الهش، وتمضى الرواية من الفصل الأول حتى النهاية، لا نكاد نترك فصلًا إلى غيره إلا بعد أن نجد تضمينات فى كل صفحة تقريبًا، ابتداء مما يقوله الموسيقى برليوز عن الكلارينيات مثلًا فى الفصل الأول، مرورًا بتضمينات عن المكتوب على بعض شواهد القبور وفى نصوص الكتب وعن اسم فاوست، فضلًا عن الأخ الأكبر الذى يرد فى رواية «1984» للكاتب الإنجليزى جورج أورويل، وهى رواية سياسية دسيوتوبية، وهو نمط من الكتابة عن الجحيم الذى تتحول إليه الأقطار التى يحكمها التسلط السياسى والتصلب الاعتقادى، وهو نوع بدأ ينتشر فى كتابات الشباب، ونموذجه فى مصر رواية «عطارد» التى كتبها الشاب الواعد محمد ربيع.
وأضف إلى التضمينات الموجودة من الأدب العالمى، الآيات المأخوذة من القرآن والتى لا علاقة مباشرة لها لبطلة الرواية، ولكنها تشير إلى نقائضها، مثل هذه الآية التى تقول: «... ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ( سورة البقرة - الآية 74).
ويضاف إلى ذلك توثيق النص السردى بمعلومات حرفية مأخوذة من نصوص الجرائد والكتب والأعمال الإبداعية. وكل هذا فى الفصل الأول. فإذا جئنا إلى الفصل الثانى نجد الأمر نفسه، وعلى نحو يُدخلنا إلى عتبة العالم المأساوى لحياة «ياما» الجزائرية خصوصًا عندما تُحدثنا عن عشقها المهووس للروايات المجنونة، خصوصًا عندما تقول: «ولأنى قارئة مُستميتة فى أبجدياتها المبهمة والخبيئة بين أسطرها، فقد أُصبت بعدوى الأسماء الروائية والمسرحية. أحيانًا أرانى مدام بوفارى، لكنى لا أملك راحتها، فى أحيان أخرى أرانى دون كيشوت وأنا لا أملك جنونه وهبله. ويلتبس عليَّ الأمر حتى مع شهر زاد لكنى لا أملك لا شجاعتها ولا راحتها ولا ثقافتها ولا سلطانها. وعندما أُصاب بالخيبة القصوى، فلا أرى إلا وجه كارمن وسكينتها الحادة بين أسنانها وهى ترقص رقصة الموت الدموية فى حضرة زوجها وعشيقها معًا». هذه هى «ياما» الجزائرية وليست مارجريت، وحبيبها «فادى» الذى تُطلق عليه اسم «فاوست» مُتخيَّلة أنها أنقذته من مخالب الشيطان مفيستوفيليس، أو هكذا يبدو لها الأمر فى هذا الفصل الثانى من الرواية. وهو الفصل الذى يكشف عن غرامها بتغيير الأسماء، مؤمنة أن الأسماء كيمياء غريبة من الصعب فهمها بالحواس العادية، وأنها عندما تمنح اسمًا لشخص يتضح لها لاحقًا أنه اسم أدبى أولًا، وأنه يتطابق بشكل غريب مع صاحبه فى التفاصيل الأكثر دقة ثانيًا فتنتهى إلى فكرة أن اسمه الحقيقى هو ذاك الذى خلقته له وليس الاسم الذى أُلصق به.
هكذا أطلقت على أبيها «زبير» «زوربا» لأنها كانت تشعر أن اسم «زبير» إجحاف فى حقه، فقد بدا لها زبير دومًا اسم محارب علَّمته المعارك الصعبة أن يكون صلب القلب والروح، كأنه البطل اليونانى آخيل الذى دفعت به الحياة نحو حرب مع هيكتور الذى كان هشًّا كغيمة، فَيَتَم زوجته أندروماك. وكانت «ياما» ترى أباها «زبير» أقرب إلى هيكتور منه إلى آخيل، عاشقًا للحياة ورجل عِلم واستقامة كلَّفته حياته، ولذلك استبدلت باسم «زبير» اسم «زوربا» من رواية كازانتزاكيس وتصورته بخيالها الجامح واحدًا من أبطالها على صفحة الفيس بوك، جَنَّتُها، أو مملكة الفراشة الهشة. هذا هو جنون الأسماء الذى انتاب «ياما»، فأطلقت عليه ما أطلقت؛ لأن به شيء من روح زوربا وعبثيته، فقد كان «زبير» جادًّا فى حياته وعمله، لكنه فى الوقت نفسه لم يكن مُصِرًّا على الحياة بأى ثمن، لا يراها إلا فى امتلائها وامتلاكه. ولذلك كان لابد أن تنتهى حياته بالقتل فى عالم يزداد كل يوم شراسة. هكذا نمضى مع التضمينات التى تبدو بلا نهاية على امتداد صفحات الرواية، فتقترن الأم باسم فرينيا إشارة إلى فرينيا وولف صاحبة رواية «الأمواج» التى جاءت بها أمها وهى تصر عليها بضرورة اكتشافها، فتشعر ياما بشىء غريب فى عين أمها يشبه الموت غرقًا مع أنها لم تكن تعرف الكثير عن نهاية فرينيا وولف، فقد اعتقدت أن أمها أصبحت لديها اسم جديد هو فرى اختصارًا لفرينيا وولف، ونسيت اسمها الأصلى فريجة. فقد كانت أمها فى كتاب فرجينيا وولف مثل: «موجة تعلو أكثر فأكثر عند اقترابها من الساحل، تتشكل قبل أن تتمزق متلاشية على الرمال، ساحبة فى إثرها ستارًا شفافًا من الزبد الأبيض». وننتقل من فرجينيا وولف إلى الأم نفسها المحاطة فى حجرتها - بمؤلَّفات بوريس فيان الكاتب الفرنسى والشاعر والمغنى ومؤلف موسيقى الجاز والعازف الكبير على الترومبيت، وهو المبدع الذى تتعلق به الأم بعد وفاة الأب وتلوذ به كأنه حبيب خيالى، تستغله فى الانتقام من الأب الذى خان الأم، والذى يعيده خيال الأم إلى الحياة لكى يعوضها عن خيانة الأب، وتظل الأم هائمة فى أحلامها الخيالية إلى أن تموت بعد أن صنعت لنفسها عالمًا خياليًّا استسلمت له وغرقت فيه إلى قرارة القرار، فترحل عن عالم ياما تاركة إياها وحيدة تواجه حربًا صامتة خرَّبت الناس داخليًّا، لا ملاذ لها من هذه الحرب سوى أعمال الفن والإبداع سواء فى الموسيقى التى نسمع منها موسيقى in the rain أو غيرها من الأغنيات المفضلة لفريق الديبو- جاز، ومنها الأغنية التى تقول:
فى بلادنا نحب الرقص، ونكره الحروب أيضًا،
نرقص مع الأشباح على جسر الموت.
هكذا تمضى الرواية مُحتشدة بتضمينات تتراوح ما بين جملة وصفحة كاملة كالصفحة الخاصة بمادلين الشخصية التى ابتدعها مارسيل بروست فى روايته «البحث عن الزمن المفقود»، وما بين الجملة والصفحة تتعدد التضمينات جامعة بين الأناشيد الدينية والنصوص القرآنية والاقتباسات وأغانى الجاز والإشارات إلى شخصيات فى أعمال أدبية تبدأ من رواية كازانتزاكيس ولا تنتهى بتضمينات أو إشارات عابرة إلى أعمال أدبية تلمع فى سياقات النص كما يلمع مثلًا «جريجورى سامسا» بكل خوفه وهو يبحث عن الأماكن الأكثر أمنًا وراء الأبواب، كى لا تدوسه الأرجُل الخشنة التى تذهب وتجىء باستمرار فى رواية «التحول» لفرانز كافكا. ولا تنتهى الرواية إلا بعد أن تصل كافكا بوجه المركيز دى صاد، حين يتضح وجه الرئيس كريـال الذى يرشق بصره فيما تقع عليه عيناه ويعريه قطعة قطعة بتلذذ منقطع النظير. هكذا تتخيله ياما وتنظر إليه فى بهو الكنيسة القديمة كأنها تراه: « كانت نظراته جافة وخالية من أى عاطفة. يشبه هيكلًا عظميًّا. كان طويلًا، وجافًا، ونحيفًا، عيناه فارغتان ومنطفئتان، وفم بلا ملامح، وموبوء، ذقنه مرتفع قليلًا، وأنفه طويل. مُشعر كحيوان خرافى، ظَهْر مُسطَّح وإليتان مرتخيتان تشبهان منشفتين مُتسختين ترتعشان فى أعالى ساقيه».
وعندما نصل إلى نهاية الرواية، تدخلنا «ياما» أكثر فأكثر إلى تداعيات لا وعيها الملىء بالنصوص الأدبية والشخصيات التى تموج بها، فنرى على صفحة اللا وعي: «سانشو دى بانثا الذى أنَّب سيده دون كيخوته فى رواية الكاتب الإسبانى الأشهر ميجيل دى ثيربانتس سابيدرا، كما نرى شهر زاد وهى تضع فى طريقها كارمن فى علاقة مُتوهَّمة بين ألف ليلة وليلة وأوبرا كارمن. وتتحول الشخصيتان إلى شخصيتين متصارعتين يفرق بينهما الفليسـوف سقراط الذى قام من غفوته الطويلة، وكان أكثر حكمة ونُبلًا. وعلى مقربة من ذلك كله يبدو بوسدنشيف الذى يقف طويلًا أمام المرآة قبل أن تحرقه نيران الغيرة من زوجته الجميلة وهى تعزف مع تروخاتشيفسكى مقطوعة سوناتة لكروتزر لـبيتهوفن وفى موازاة ذلك يجلس بيتـهوفن مع شــارل بـو فارى ويتحاكيان عن الخيانات الزوجية بسخرية كبيرة وبدون أى رغبة فى الانتقام، بينما تهرب مدام بوفارى مع إزميرالدا وتختفى معها فى كنيسة نوتردام لكى تقضى يومًا كاملًا تسمع فيه لحكايات كازيمودو. حتى أماكن ناس دبلن تستعيدها مخيلة «ياما» التى تنزع الشخصيات من وطنها لتُلقيها فى العواصم الحزينة والقاسية، الرباط، تونس، صنعاء، بغداد، وهران، دمشق، تومبوكتو، الربدة، جدامس، فتتركهم يهيمون على وجوههم حيث لا نساء ولا جسور ولا شوارع غاصة بالناس.