الأهرام
د. سليمان عبد المنعم
عن سؤال «الوقت» فى القضية الفلسطينية (1-2)
القضية الفلسطينية، لا أراها فقط بالنسبة لمصر قضية أمن قومى فى الماضى والحاضر والمستقبل، لكنى أراها أيضاً كعروبى أحد فصول لعبة الأمم التى طالما أربكتنا واستنزفت قوانا. ثم أراها من منظور إنسانى نموذجاً لأعدل قضية فى التاريخ المعاصر. أناقش هنا مسألة الطرف المستفيد من عامل الوقت بين طرفى الصراع لأتساءل تُرى بعد خمسين عاماً من اليوم كيف سيكون مآل القضية الفلسطينية؟

منذ أيام بدا رئيس الوزراء الإسرائيلى نيتانياهو مبتهجاً وسعيداً فى حفل نقل مقر السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس التى ما زالت توصف بالمدينة المحتلة بموجب أكثر من 170 قراراً دولياً، ولم يكن الرئيس الأمريكى ترامب صاحب قرار نقل السفارة اقل ابتهاجاً وهو يعلن أنه يوم عظيم. فى هذه الأثناء كان يسقط 62 شهيداً فلسطينيا ويجرح المئات حتى لحظة كتابة هذه السطور. هل يعنى هذا أننا نشهد لحظة الانتصار النهائى للمشروع الصهيونى فى الذكرى السبعين لنشأته وان عامل الوقت لن يكون إلا تأكيدا لهذه اللحظة؟ ربما يعتقد كثيرون أن عامل الوقت يمضى لصالح دولة الاحتلال بقدر ما يدفع بالحقوق الفلسطينية المشروعة إلى غياهب النسيان. مبررات هؤلاء عديدة إذ يرون مثلا أن معدلات حركة الاستيطان الإسرائيلى تكرس على الأرض وقائع جديدة يزيد الوقت من تداعياتها، وكذلك سياسات التهويد المتواصل التى تضعف بفعل الزمن الهوية الفلسطينية وتمحو ما تبقى من أدلة الوجود التاريخى للفلسطينيين الموغل فى جذوره على هذه الأرض.

إننى واحد من الذين يعتقدون أن التاريخ لم يقل كلمته النهائية بعد بشأن القضية الفلسطينية برغم حالة الابتهاج والصخب التى تعم إسرائيل هذه الايام . ما زالت هناك حقائق ومؤشرات تدل على أنه ليس يقينيا ولا نهائيا بعد أن الوقت يمضى لمصلحة دولة الاحتلال. وأتوقف بمنهج الاستقراء التاريخى ودلالة الأرقام عند الحقائق التالية.

أولا- إن النمو السكانى الفلسطينى سيكون يوما ما طال الزمن ام قصر هو أحد عناصر حسم الصراع أو بالحد الأدنى التأثير فى معادلاته. فقد تجاوز اليوم عدد سكان فلسطين التاريخية (6.5 مليون نسمة) عدد السكان اليهود (6.3 مليون نسمة) وهو الأمر المقلق الذى ناقشه الكنيست الإسرائيلى فى جلسة عاصفة مؤخراً. بالطبع يشكك الإسرائيليون فى دقة أرقام جهاز الإحصاء الفلسطينى لكن حتى بفرض وجود نسبة اختلاف لن تزيد على 5% فى كل الأحوال فالمؤكد وفقاً لتقرير حقائق العالم الذى تصدره المخابرات الأمريكية أن معدَل النمو السكانى لدى فلسطينيى الداخل (الضفة الغربية وغزة) يصل إلى 2.8٪ بينما يبلغ فى إسرائيل 1.7 ٪ مؤدى ذلك على امتداد العقود القليلة المقبلة أن يصبح السكان اليهود فى فلسطين أقلية عددية لن يجدى معها فكرة الدولة الواحدة وستجد إسرائيل نفسها يوماً ما مجبرة على قبول حل الدولتين الذى ترفضه الآن. أهمية الحقائق السكانية أنها لا تولّد كالفئران أعداداً فقط لكنها تخلق ثم ترسخ على الأرض حقائق بشرية واجتماعية وسياسية وثقافية وأمنية وتاريخية لا يمكن التعامل معها بالإنكار والتجاهل ولإسرائيل فى جنوب إفريقيا عظةٌ وعبرة (!) لقد جرّبت دولة الاحتلال الإسرائيلى كل ما فى جعبتها وخيالها بحق الشعب الفلسطينى من ممارسات القتل والتشريد والاعتقال والحصار وجدران الفصل العنصرى وما زال الفلسطينيون أحياء يتناسلون ويعيشون ويقاومون ويستشهدون. سبق لإسرائيل أن ارتكبت منذ عام 1948 أكثر من سبعين مذبحة قتلت فيها نحو 15 ألف فلسطيني، وقامت بتشريد نحو 800 ألف فلسطيني، ودمرت 531 قرية فلسطينية، ويوجد اليوم فى سجون دولة الاحتلال نحو سبعة آلاف أسير فلسطينى بينهم نساء وأطفال فماذا كانت النتيجة؟ ما زال هناك شعبٌ فلسطينى مقاوم ملتصق بالأرض بذاكرة حية يشيّع الشهيد لينجب مشروع شهيد جديد، وزاد عدده من 1.4 مليون نسمة فى عام النكبة إلى 6.5 مليون نسمة اليوم، وتأكد لدولة الاحتلال أن كل ما فعلته اسرائيل لم يكسر إرادة شعب الجبارين كما كان يصفه الزعيم الفلسطينى الراحل ياسر عرفات.

ثانياً- أصبح الطابع النخبوى للشعب الفلسطينى حقيقة يمكن تلمسها برغم كل ما يتعرض له تحت سلطة الاحتلال من قمع واضطهاد وإفقار. يكفى أن نعرف وفقاً للأرقام أن نسبة الأمية لدى الفلسطينيين تقل عن 1% لدى الشباب ولا تزيد على 1.2% لدى شريحة 30-44 عاماً وهى من أفضل النسب العالمية. وأن نسبة الالتحاق بالتعليم الثانوى تبلغ 87.1٪ بينما تصل فى العراق الى 51٪، وقطر 85٪، ولبنان 82٪، وتركيا 82٪، وباكستان 33٪. أما معدل التعليم الجامعى فيسبق بدوره لدى الفلسطينيين دولاً عربية وغير عربية كثيرة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف