الأهرام
يسرى عبد الله
ثقافة البيْن بيْن وشيوخها
ليس هناك شيء يشبه أزمتنا، ويكشف تناقضاتنا، أكثر من محاولة إلباس التصورات القديمة رداء جديدا، نعتقد من خلاله أنها قد أصبحت جديدة، ونقنع أنفسنا بأنها صارت أكثر حداثة، وينطبق هذا على مجمل السلوك الإنسانى فى مجتمعاتنا العربية، وعلى علاقة الإنسان بالموروث على وجه الدقة، وتأخذ هذه الفكرة أبعادا مختلفة فى الواقع، بدءا من تكريس البعض للماضى بوصفه الملاذ الوحيد للجماهير، وتقديم ما فعله السابقون بأنه وحده عين الصواب، وأن كل من تلاهم أهون شأنا وأضعف قيمة. وهؤلاء يبدون واضحين للغاية فى تقديمهم لما يعتقدونه، وما يؤولونه وفق تصوراتهم الخاصة، فيصدمونك بآرائهم التى لا تمت لعالمنا المعاصر بأى صلة، والمشكلة الحقيقية تكمن فى اعتقاد البعض بأن ما يقدمه هو عين الحقيقة، والتفسير الجامع المانع الذى لا يحتمل الشك من قريب أو بعيد.
سنجد أمثال هؤلاء يغرقوننا فى فتاوى وتفسيرات تخنق المناخ العام، وتجعله أسيرا لتصور أحادى للعالم، بل وتدفعه دفعا للوقوع فى فخ الاستقطاب الحاد، عبر فتاوى طائفية أحيانا، وعبثية أحيانا أخري. وستجد هؤلاء المتأسلفين يدعون بالهلاك على المخالفين فى العقائد أحيانا، ويحتكرون الرحمة والسلام لأتباعهم، ويعتقدون أنهم يمثلون الفرقة الناجية، وأن كل ما خلاهم قبض ريح، ويزعمون أنهم يعرفون مصير الإنسان، وإلى أين سيكون مستقره، فيدخلون هذا فى الجنة، ويدخلون ذاك فى النار!. إن كل هذه التصورات تنطلق من استخدام مروع لفكرة اليقين، واعتقاد مطلق بأبدية التصور وسرمديته، ومحاولة إطلاق الأحكام الجاهزة استنادا على هذا النظر المحدود للعالم والأشياء، والمشكلة هنا أن المؤسسات الدينية لم تلعب الدور المأمول فى تهيئة السياق المحيط لاستقبال إيجابى لقيم التقدم، مثلما غابت الأدوار الفاعلة أيضا للمؤسسات الثلاث المسئولة عن تشكيل العام، وأعنى بها المؤسسات الثقافية والتعليمية والإعلامية التى افتقدت البوصلة منذ زمن طويل نسبيا.
وفى مقابل هذه الفئة من شيوخ التأسلف ستجد طائفة أخرى تتعاطى على نحو مختلف مع العالم، فى الظاهر فحسب، حيث تغادر عن عمد الصورة الذهنية المألوفة عن رجل الدين، وتتبارى فى ارتداء الملابس الأكثر حداثة، غير أننا نصبح أمام قشرة خارجية ناعمة تخفى تحتها بنية صلدة، موصولة بقيم التوحش الرأسمالى وآليات السوق، تتهافت الفضائيات عليها، فتقدم البرامج وتصنع الإعلانات الاستهلاكية وتتحدث عن اتساق المنتجات المعلن عنها مع القيم الإسلامية بيقين مطلق وثقة مفرطة، واستخفاف بعقول المشاهدين، ولا تهدر وقتا فى الانتشار السريع عبر آليات الميديا ووسائلها المختلفة، وتوظف السوشيال ميديا توظيفا براجماتيا، فتمتلك عبرها أنصارا ومريدين، فيما يشبه ظاهرة «الألتراس» لكنها ليست هذه المرة مختصة بجمهور كرة القدم، ولكنها مختصة بمريدين نوعيين لشيوخ البين بين، من أولئك الذين يضعون قدما فى الماضى على المستوى الفعلي، وأخرى فى الحاضر على المستوى الظاهري.
لكن وعلى الرغم من التباعد الظاهرى بين الفريقين، غير أن الجوهر يظل واحدا، فالفارق هنا يبدو فارقا فى الدرجة وليس فى النوع، فكلاهما من أبطال اليقين الدامغ، وإصدار الأحكام، والاعتقاد والتكريس فى قدرة الماضى والتراث القديم على علاج قضايا الراهن ومشكلاته المتجددة، يبدو لى الفارق بين التيارين مثل الفارق بين المتأسلفين والإخوان المتأسلمين، أو الفارق بين من أيدوا المعزول ومن أيدوا إخوانيا آخر ادعى انشقاقه عن الجماعة، فالذهنية الحاكمة للاثنين واحدة، والمنطلقات الفكرية واحدة أيضا.
يبدو أننا نعيش منذ فترة طويلة حقبة اليقين بامتياز، فكل شيء جاهز، وكل شيء موضوع تحت الطلب، والإجابات نمطية وحاضرة دوما، وبما يجعل من مهمة العقل النقدى مهمة صعبة للغاية، لأنك أمام بنى معرفية متحجرة خارج اللحظة والتاريخ، وتصورات تحتاج للمساءلة والنقد قبل احتياجها إلى التجديد والتحديث.
وربما يكون التجديد خطوة أولى فى البناء، لكنه يجب أن يكون مرتبطا بنسق معرفى مغاير، موصول بزمنه ولحظته، ومرتكز على إرث المعرفة الواسع، وتراكمات الروح الحضارية المصرية، التى أضفت الاعتدال على كل شيء، وربطت المصرى بالخلود، وجعلته موصولا بالأرض دائما، وجعلت النيل العظيم نهرا للمحبة والأمنيات والأمل المستمر، أو جعلته «نهر السماء» بتعبير الروائى الكبير فتحى إمبابى فى روايته الفريدة التى تحمل الاسم نفسه، على لسان الرجل الطاعن فى السن إلى البطل المركزى فى الرواية «عبدالمحسن» الفار من بطش المماليك، وجورهم، واستعبادهم أبناء البلد الأصليين من المصريين فى مفارقة مؤسفة وعبثية أيضا. وبعد.. ليس هناك أكثر وهجا من الاتساق مع الذات، ومن حسم الخيارات الرجراجة، وتجاوز ثقافة البين بين، ومغادرة ثقافة امتلاك الحقيقة واليقين الجاهز، أملا فى عالم وسيع حقا، قائم على التنوع الخلاق، واستيعاب المختلفين، وقبول الآخر واقعا لا كلاما، واستدعاء تراث المحبة المصري، وهو تراث خصب وإنساني، يبدأ من الأمثال الشعبية ولا ينتهى عند بعض الممارسات الاجتماعية التى لم تزل حاضرة فى الوجدان الجمعى للمصريين.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف