يكاد المرء يخجل من نفسه وهو يغوص فى تراثنا العربي.. ويدهشه عبقرية القدامى وإخلاصهم فى كل ما قدموا للإنسانية من إنتاج علمى وفنى وإنساني.. ودعنى هذه المرة أصحبك فى جولة مع مجموعة من نجوم تراثنا.. لكى تعرف كيف كنا وكيف أصبحنا.. موتانا الأوائل الأفذاذ.. يعيشون بأعمالهم الخالدة والمعاصرون ممن ينتحلون صفة الإبداع والعبقرية.. أموات وهم على قيد الحياة.. إلا من كان منهم يعرف ويدرك جيدا أن كلمته التى لا يلقى لها بالا ستكون مثل الجبال يوم حسابه.. إما له.. وإما عليه.
فإذا توقفنا قليلا أمام »رسالة الغفران« لأبى العلاء المعرى سنجد أن »دانتي« تأثر بها كثيرا عندما كتب الكوميديا الإلهية.. وقد اكتشف المستشرق الإنجليزى نيكلسون عام 1899 مخطوط »الغفران«.. وسرعان ما انتشر خبرها فى إسبانيا وإيطاليا ولندن بلغات عديدة وظهرت بعد ذلك دراسات عديدة حولها.. منها كتاب المستشرق الإيطالى »تشيرويللي« »كتاب السلم أو المعراج«.. ومسألة المنابع العربية الإسبانية للكوميديا الإلهية وقد تأثر بها »هومير« فى الالياذة.. ثم الشاعر الإنجليزى »ملتون« فى ملحمته »الفردوس المفقود«.. ورسالة الغفران فيها الكثير من الخيال والأسلوب الأدبى البديع واللحمة الصوفية من خلال قصة رجل يتخيل أنه صعد إلى السماء ووصف ما رأى مستندا إلى رحلة الإسراء والمعراج وما جاء فى القرآن الكريم ورغم أن أبى العلاء فقد بصره لكنه لم يفقد بصيرته وقد عاش معزولا فى بلدته معزة النعمان فى سوريا ثم ننتقل إلى حالة أخرى لرجل عاش فى القرن الرابع الهجرى من سنة 310هـ إلى 414.. حيث الانقسامات والفتن والفوضى والاضطرابات وفى ظل هذا الانحطاط السياسى كان الرقى الأدبى وبعد تفكك الدولة العباسية عمد أمراء الدول الصغيرة سواء لأسباب سياسية أو حبا فى الظهور.. الإبقاء على تقاليد بغداد إبان مجدها فى تشجيع العلماء وتقريب الفئة الممتازة من الأدباء والشعراء والعطف عليهم.
أحدثكم عن »أبى حيان التوحيدي« فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة.. ومن أشهر أعماله: الإمتاع والمؤانسة وهو كتاب فى ثلاثة أجزاء وأيضا »الصداقة والصديق« وجمع فيه كل ما قيل عن الصداقة شعرا ونثرا منذ عصر الجاهلية ثم كتاب »الهوامل والشوامل« وهو عبارة عن أسئلة فى موضوعات أدبية واجتماعية وفلسفية وأخلاقية ونفسية ولغوية.. وكذلك كتاب »بصائر القدماء وسرائر الحكماء أو البصائر والذخائر« وهو مكون من عشرة أجزاء وسجل فيه التوحدى ما رأى ومسمع وحفظ فى مجالس الدروس التى كان يحضرها والكتب التى قرأها وقد وصف كتابه هذا بأنه ثمرة العمر وزينة الأيام ووديعة التجارب وهو يتبع فى ذلك أسلوب التحقيق والتدقيق والتحليل وإلى جانب ذلك له مؤلفات أخرى منها: »ذم الوزيرين، النوادر، تقريظ الجاحظ، رسالة الحنين إلى الأوطان، رسالة فى علم الكتابة، المقابسات، التذكرة التوحيدية، الإقناع، الإشارات الإلهية والأنفاس الروحانية، الحج العقلى إذا ضاق الفضاء عن الحج الشرعي، رسالة فى أخبار الصوفية«، ومؤلفات أخرى عديدة.
>> رحم الله الأوائل بقدر ما قدموا.. ورحمنا بقدر ما تأخرنا وأخرنا!!