المصرى اليوم
فاطمة ناعوت
السؤال أم الإجابة؟
كثيرًا ما علّق قراءٌ على مقالاتى التى تحوى أسئلةً دون إجابات، قائلين: «وأين الإجابةُ؟»، وهنا، أودُّ أن أطرح على السائلين عدة أسئلة:
- هل السؤال أهمُّ، أم الإجابة؟ وأيهما أسبق؟

- هل هناك أسئلةٌ تحمل الإجابة فى طيّاتها؟

- هل هناك إجاباتٌ لكلّ الأسئلة التى دارت وتدورُ فى عقل الإنسان، منذ بَدء الخليقة، وحتى اليوم، لكيلا أقول حتى نهاية الحياة فوق الأرض؟

- ما الذى يُقرّبُنا أكثر من مُشارفة «الحقيقة»: السؤالُ أم الإجابة؟

- هل نسألُ دائمًا، طمعًا فى الحصول على إجابات؟ أم أحيانًا نسألُ ونحن نعلم أن الإجابةَ غيرُ معلومة حتى لحظة السؤال، أو حتى غير مطلوبة؟

- هل يحدثُ أن نسأل، فقط لكى نُفكّر، حتى تعملَ تروسُ عقولنا؟

إن وجدتَ إجابات لكل ما سبق من أسئلة، عزيزى القارئ، فهذا أمرٌ طيب. وإن حيّرتكَ بعضُ الأسئلة، فهذا طيبٌ أيضًا، وما طرحتُ ما سبق من أسئلة إلا لكى نفكّر معًا.

الحقيقةُ، أن المدارس الفكرية الحديثة فى الفلسفات، قد علّمتنا أن «الأسئلةَ» أهمُّ من «الإجابات». ليس فقط لأن لا أحدَ فى العالم يملكُ إجاباتٍ نهائيةً على الأسئلة الوجودية الكبرى، ومَن يزعم غير ذلك كاذبٌ قلبُه. بل كذلك لأن السؤالَ فى ذاته، أىّ سؤال، يحملُ فى طيّاته إجاباتٍ «لا نهائيةً»؛ ربما بعدد البشر المشتبكين مع هذا السؤال أو ذاك.

السؤالُ يثيرُ العقل. يستفّزه، ويُحفّزه ليستيقظ من سُباته؛ ويُحلِّق فى فضاء التفكير. بينما الإجابةُ عادةً تمنحُ العقل قرصًا منوّمًا، ليُكمل إغفاءته اللذيذة الوادعة، وينعم بالنوم والكسل. السؤالُ مُقلِقٌ. والإجابةُ مريحةٌ. السؤالُ هو صكُّ الدخول إلى جحيم التفكير. بينما الإجابةُ هى بوليصةُ الرقود، والركود، فى جنة البلادة الذهنية اللذيذة. السؤالُ هو «العقل». والإجابة هى «النقل». والفارقُ، فى تقديرى، بين الإنسان الذكى الناجح، وبين أخيه البسيط، هو أن الأول يدورُ رأسُه فى فَلَك الأسئلة المترامى، بينما الثانى عقله راقدٌ فى كبسولة الإجابات. الأول تتقاذفه أمواجُ بحر متلاطم من الأفكار الحائرة. والثانى ينعم بالسكون الهانئ تحت شجرة اللاشىء الوارفة. الأول مُتشَكِّكٌ. والثانى مُتيقنٌ. الأول يشقى. والثانى متنعّمٌ. لكن الأول مشروع عالِمٍ أو فيلسوفٌ محتَمل. والثانى غير ذلك. ولهذا يقول المتنبى: «ذو العقلِ يشقى فى النعيم بعقله/ وأخو الجهالة فى الشقاوةِ ينعمُ». وأسمح لنفسى، بعد إذن المتنبى، بأن أغيّر كلمةً فى عَجُز البيت الشعرى، ليصبحَ: «وأخو (التساؤلِ) فى الشقاوة ينعمُ». فذو السؤال لا ينعمُ، حتى فى النعيم. وذو الإجابات الجاهزة ينعَمُ، حتى فى الشقاء.

لأجل كلّ ما سبق؛ عادةً منا نُلقى، نحن الكتّاب، أسئلتَنا فى سلّة القارئ، ثم نمضى دون زعم امتلاكنا لأى إجابات نهائية. وإن امتلك كاتبٌ إجاباتٍ، فمن الأليق والأوفق ألا يقولها؛ حتى لا يصادرَ على القارئ ويمنحه فرصةَ الوصول إلى إجابته الخاصة، التى ليست بالضرورة إجابات الكاتب، وقد تكون أذكى منها وأوفق. كأنما هو تمرينٌ ذهنىّ للقارئ، وللكاتب معًا. وليس من ناجح وراسب فى هذا التمرين الشيّق. فكل الإجابات مقبولةٌ، وإن أخطأتْ. فالهدفُ ليس الإجابة «النموذجية»، بل «التفكير» وإعمال العقل، وليس طرح الإجابة. وعندى أن اليقينَ الوحيد فى هذا الكون، هو «اللايقين». وتلك حكمةُ الله تعالى فى منحنا عقولاً تسألُ وتتحيّر؛ حتى «تتريّض» العقولُ مع السؤال وتنمو. فللعقول «عضلاتٌ» مثلما للجسد. إن سكَنَ الجسدُ عن الحركة، ترهّلت عضلاتُه وضمُرت، وإن توقّف العقلُ عن السؤال؛ ترهّل وشاخ وضمُرَ. وفى مقال قادم سوف أطرحُ ثلاثة أسئلة تركها رسامٌ يائس على إحدى لوحاته، قبل انتحاره، ولم يجد أحدٌ إجاباتٍ عليها حتى اليوم.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف