العلقة التى أكلها حرامى الجزم فى الجامع، تجاوزت بمراحل تلك التى أكلها الحمار فى المطلع. ومع ذلك لم يرتدع حرامى الجزم وظل يمارس هوايته حتى فى الشهر الكريم، الذى تُفتح فيه أبواب الجنة وتُغلق فيه أبواب النار وتسلسل فيه الشياطين، الأمر الذى يجعلنا نرد تلك الظاهرة القديمة «القديمة جدًا»، والمستمرة، إلى ذوبان الفارق بين الحمير الناهقة.. والحمير الناطقة!.
الظاهرة القديمة، القديمة جدًا، والمستمرة، بدأت مع بداية ظهور المساجد، ولا يزال الرواة يختلفون حول صاحب أول حذاء مسروق فى التاريخ الإسلامى. منهم من يقول إنه عمر بن الخطاب، الفاروق، بينما يقول آخرون إن الصحابى عبدالله بن مسعود كان أول من تعرض حذاؤه للسرقة. واستمرت الظاهرة فى عصر «جحا» وكانت لحذائه المسروق من الجامع نوادر عديدة، تهون إلى جوار نوادر العصر الحديث، ومنها أن وفدًا مصريًا كبيرًا برئاسة الشيخ أحمد حسن الباقورى، وزير الأوقاف الأسبق، ذهب إلى القدس سنة ١٩٥٥، للمشاركة فى مؤتمر، وأدوا صلاة الجمعة فى المسجد الأقصى. وكان أنيس منصور بين أعضاء الوفد، وكان أيضًا بين ممن لم يعثروا لأحذيتهم على أى أثر. وللشيخ الباقورى قصيدة طويلة يحكى فيها تلك القصة، التى تكررت فى ١٧ فبراير ٢٠١٧، حين ذهب وزير الأوقاف الحالى، لافتتاح مسجد بمحافظة الشرقية، بحضور المحافظ ورئيس جامعة الزقازيق، وعدد من البرلمانيين والقيادات التنفيذية.
بعد ٦٣ سنة على واقعة وزير الأوقاف الأسبق، وبعد ١٥ شهرًا على واقعة الوزير الحالى.. وبعد الاطلاع على القانون رقم ٢٧٢ لسنة ١٩٥٩ بتنظيم وزارة الأوقاف ولائحة إجراءاتها والقوانين المكملة والمعدلة لها. وعلى القانون رقم ١٥٧ لسنة ١٩٦٠ بإشراف وزارة الأوقاف على جميع المساجد والزوايا وإدارتها إلى أن يتم ضمها. وعلى قانون الخدمة المدنية الصادر بالقانون رقم ٨١ لسنة ٢٠١٦ وعلى قرار رئيس مجلس الوزاراء رقم ١٢١٦ لسنة ٢٠١٧ بإصدار اللائحة التنفيذية لقانون الخدمة المدنية.
بعد كل ذلك أصدر الدكتور محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف، القرار الوزارى رقم ١١٦ لسنة ٢٠١٨ الذى قرر فيه أن تكون «خدمة حفظ أحذية المصلين بالمساجد هى خدمة مجانية تقدم بجميع المساجد احتسابًا لوجه الله تعالى» وأن «يحال للتحقيق بديوان عام الوزارة كل من يطلب أو يقبل مقابلًا لحفظ الأحذية من العاملين فى المسجد، ويكلف إمام المسجد ومفتش المنطقة ومدير الإدارة التابع لها المسجد بمتابعة التنفيذ».
القرار «الوزارى» صدر فى ٤ من رمضان سنة ١٤٣٩ هجرية الموافق ٢٠ من مايو سنة ٢٠١٨ ميلادية. وتم توزيعه على رؤساء القطاعات ورؤساء الإدارات المركزية وجميع مديريات الأوقاف الإقليمية. ومعناه المباشر هو اعتراف الوزارة بأن هناك من كانوا يحصلون على مقابل حفظ «حماية» أحذية المصلين أو مقابل «ركنة» الحذاء. بالضبط، كما تدفع مقابل ركن سيارتك.
وكنت قد سمعت كثيرًا عن هذا الموضوع ولم أصدقه، واعتقدت أن الدفع يكون عن طيب خاطر على سبيل الصدقة، حتى أكد لى بعض الأصدقاء إنهم يدفعون ٥ جنيهات مقابل «ركنة» الحذاء فى مسجد الحسين، مؤكدين أن الدفع يمكن وصفه بأنه إجبارى. والأهم من هذا الاعتراف ومن أى استنتاجات أخرى قد تخطر على بالك، هو أن القرار بأسبابه ومسبباته يكشف أننا أمام ظاهرة عجزت وزارة الأوقاف عن التعامل معها إلا بتعيين حراسة، أساء أفرادها استغلال مواقعهم، فصدر القرار السابق.
لا تنفرد مصر بتلك الظاهرة. فهى منتشرة فى كل دول العالم. فى كوريا الجنوبية «مش الشمالية»، اضطر المواطنون إلى استئجار حراس للأحذية التى اعتادوا خلعها قبل الدخول إلى المنازل أو المطاعم أو قاعات الجنائز. ومنذ سنوات تحديدًا فى مارس ٢٠١٠ فوجئت السلطات الكورية الجنوبية، وهى تلقى القبض على أحد المجرمين فى سيول، بأنه يحتفظ فى مخزن بصناديق ممتلئة بألفى زوج من الأحذية الفاخرة، اتضح أن اللص سرقها من دور الجنائز ، التى عادة ما يذهب إليها المعزون مرتدين أفخر الثياب والأحذية.
ولا تختلف كوريا الجنوبية عن السعودية التى تعانى من تلك الظاهرة منذ سنوات.. فى ١١ فبراير ٢٠٠٤ سألت جريدة السعودية فى عنوان: لصوص المساجد.. ظاهرة متى تنتهى؟!. وفى ٤ أكتوبر ٢٠١٦ تداول متابعو مواقع التواصل مقطع فيديو وثقته كاميرا مراقبة للحظة قيام مواطن بسرقة أحذية من جامع «التويجرى» بحى الربوة فى الرياض. وفى الكويت، يرى البعض أن سرقة الأحذية فى المساجد من الموضوعات والقضايا المهمة التى ترقى إلى حد استجواب رئيس مجلس الوزراء والإطاحة بالوزارة أجمع.
نحتاج إلى أضعاف هذه المساحة لنتناول طرائف حدثت فى بقية الدول العربية ودول المغرب العربى تحديدًا. غير أن الطرائف تتضاءل فى وجود مأساة كتلك التى حدثت فى منطقة العطارين بالإسكندرية، سنة ٢٠١٣، إذ مات ٣ وأصيب ٣٧ بسبب سرقة حذاء أثناء أداء صلاة التراويح. تمكن صاحب الحذاء من معرفة بائع الأحذية المستعملة الذى اشتراه من اللص.
وذهب مع أصدقائه لاستعادته، فحدث ما حدث. وقبل أن يخرج «كرومبو» اللى جواك ويسأل: كيف عرف الضحية «الجانى لاحقًا» أن حذاءه المسروق يتم بيعه فى هذا المكان؟ أجيب بمعلومة بديهية ومعروفة وهى أن فى كل محافظات مصر توجد سوق لبيع الأشياء المستعملة، لا يهم البائع والمشترى فيها إن كانت تلك البضاعة مسروقة أو مسلوقة!.
للأحذية المسروقة، سوق وزبون، أشهرها حارة الجزامين أو سوق الحرامية «اسمها كده»، وهى حارة جانبية متفرعة من شارع منصور بحلوان، يحترف سكانها بيع وإصلاح الأحذية. ولأن بعض الظن إثم، يمكنك أن تصدق حجتهم «البائع والمشترى» وتقنع نفسك بأن مصدر تلك الأحذية المستعملة، قد يكون تجار الروبابيكيا. وغير «حارة الجزامين» أو «سوق الحرامية» بحلوان، هناك أيضًا سوق الجمعة، بمنطقة السيدة عائشة، وسوق الثلاثاء بمنطقة المنيب. ولا تنفرد مصر بهذه النوعية من الأسواق، إذ يوجد مثلها فى كل دول العالم. فى فرنسا مثلًا هناك سوق مونتروى المفتوحة شرقى باريس، المعروف باسم «سوق البراغيث» الذى اشترى منه الفنان «فان جوخ» حذاء مستعملًا ورسمه فى لوحة شهيرة سماها «زوج من الأحذية»، وسنة ٢٠٠٠ بيعت هذه اللوحة بعشرين مليون دولار أمريكى.
الحذاء المسروق، إذن، قد يتسبب فى كوارث، كما حدث فى حى العطارين بالإسكندرية، وقد ترسم رحلته من المسجد إلى السوق إلى الزبون صورة لمجتمع، يقال إنه متدين بطبعه، دون تزييف أو تحريف. وقد يكون وعاء لرموز وأفكار، مثل حذاء فنسنت فان جوخ، الذى لا يزال المفكرون ومؤرّخو الفن ينظرون إلى هذه اللوحة ويثيرون من خلالها أسئلة حول وظيفة الفنّ وطبيعة الأشياء، فى مقابل أسئلة عبثية قادت إليها الأحذية المسروقة هنا، لعل أغربها هو ذلك السؤال: هل سرقة الأحذية من المساجد حرام شرعًا؟
السؤال فى ذاته نكتة. ومع ذلك ظهر السائل العبقرى وحمل سؤاله «السريالى» مذيع فى قناة «الناس» إلى الدكتور مجدى عاشور، مستشار مفتى الجمهورية، فى ٢٨ أكتوبر الماضى.
ونشرت مواقع إلكترونية مقطع الفيديو تحت هذا العنوان «شاهد.. مستشار المفتى يوضح حكم سرقة الأحذية من المسجد». والغريب هو أن الرجل «أفتى» وأجاب بأن شتم اللص، وقال إنه حرامى عنده نذالة شديدة. وكأن السرقة كانت «أو ستكون» حلالًا، وكأن اللص لن يكون نذلًا، لو سرق من مكان آخر غير المساجد، من بيت الدكتور عاشور مثلًا!