الأهرام
أنور عبد اللطيف
كارثة اعتيال أبو قردان بالورقه والقلم
توقفت فجأة وسط طريق بنها المنصورة السريع حتى لا تدهس سيارتى جثة صديقى، بجواره وجدت جثة ثانية وثالثة ورابعة وعشرات الأشلاء والرءوس والأجنحة البيضاء المتناثرة على شاطئ الرياح التوفيقى قبالة مدينة ميت ناجى، فى نفس المكان وفوق نفس الشجرة طالما استمتعت بمهرجان عودتها لحظات الغروب الساحرة برياشها البيضاء المكوية، ومناقيرها الناضرة وهى تغرد مبتهجة بعد يوم من العمل الشريف فى الحقول ، وشجرة الصفصاف التى يحلو لأبى قردان المبيت فوقها لم يبق منها سوى أربع أو خمس شجرات على طول المسافة من كفر شكر حتى ميت غمر، ظلت متعة مشاهدتى مهرجان الغروب أحد معالم سفرى إلى القاهرة على مدى يزيد على 40 سنة، لم يكن ينافسها إلا موكب انتظار السيارات أمام شركة الغزل والنسيج ومشهد العمال والموظفين بالملابس الموحدة وهم يركبون الأتوبيسات فى مواعيد منضبطة، فيضبط عليها الفلاحون فى الحقول مواقيتهم، ومشهد اللوريات المحملة بأكياس القطن، ومواكب سيارات نص النقل وهى تخرج من المصنع بعد تحميلها بالأقمشة والغزول مزدانة بألوان مختلف الشركات والمتاجر ومنافذ البيع، وبمرور الزمن تلاشى مشهد عملية التسليم والتسلم لورديات العمل بعد أن تحول المصنع الى ما يشبه المخزن لطغيان الأقمشة المستوردة ودمار صناعات الغزل والنسيج وترك الخدمة آلاف العمال بسيف المعاش المبكر.

لم يمنعنى سباق الغروب الرمضانى ولا تأخرى عن موعد الإفطار فى البلد الجمعة الماضى عن إزاحة أشلاء «أبو قردان» المفعوصة فى الأسفلت وإنقاذ الأحياء وإغاثة من يئن بأجنحته ويفتح مناقيره ويتوجع بلا صوت يحاول استعطاف المارة، لم أعبأ بصوت سائق غاضب يستهجن اهتمامى بتجنيب طيور«أبو قردان» النافقة عن الطريق، تحملت رزالة آخر ينهرنى: انت يا ة. فاكر نفسك فى حديقة الأورمان، ويشيعنى ثالث ساخرا: الكلام ده تعمله فى الميريلاند مع «نجلاء فتحى»، فأنظر الى الشجرة التى كانت بتطرح المئات من هذا الطائر الفرعونى المقدس

(ابو قردان) وهى تلعب وتتزاحم وتحتضن بعضها وترفرف بأجنحتها كأنها تسأل عن أصدقائها ومن حضر ومن تأخر قبل أن يحل الظلام، الآن وجدت معظمها أسفل الشجرة وبعضها يسقط منهكا من فوق الأغصان ومن يستطيع الوقوف يظل يرفرف بجناحيه حتى يرتمى بين غصنين أو يفقد توازنه ويسقط على الأرض بين الأعشاب وأكوام القمامة ومخلفات المبانى بعيدا عن الاسفلت!

بعد الافطار الذى تأخر حتى قبيل صلاة العشاء حكيت للحاج طلعت: عن ظاهرة النفوق الجماعى التى شاهدتها لـ«أبو قردان» فمصمص شفتيه متصعبا وقال: أبو قردان الذى يموت الآن هو النوع الطيب الذى ظل متمسكا بصداقة الفلاح بتاع زمان، لكن هناك نوعا آخر من أبو قردان فهمها من بدرى ترك الفلاحة ويأكل الآن من القمامة ويشحت فى الشوارع وحول البلاعات، صحيح ان جسمه هزيل ومريض ومترب لكنه «عايش» بعيدا عن سموم المبيدات، ثم وضع طلعت كوب الشاى ومال بجسده إلى الأمام وكشف سرا خطيرا: مصرع ابو قردان أمن قومى وواجب الحكومة ان تدرس أساس المشكلة لأن نفوق أبو قردان الأصيل اليوم مقدمة لزهق الفلاح من الزراعة وانتقاله للشحاتة غدا، والسبب هو منع زراعة المحاصيل التى تسند حياته، مثل الأرز ـ بعد القطن ـ وإجباره على زراعة الذرة بتكاليفه التى تقصم الظهر!

وتدخل الحاج صلاح بعقليته المرتبة: بالورقة والقلم لو زرعت الفدان ذرة، يتكلف 900 جنيه للتقاوى، و1000 لأجور أنفار والحرث والثنى والفرد والتخطيط، و200 جنيه مبيدات مع الرية الأولى وبعد أسبوع من الإنبات يرش بـ 200 أخرى، ثم نسمد بـ 9 شكائر «يوريا» على ثلاث ريات بـ 2340 جنيها، تدفع منهم الحكومة ثمن ثلاث 250 جنيها، هذا بخلاف العمل والخدمة وماكينة المياه، ولو نجا الذرة من الدودة ينتج الفدان 18 إردبا ثمنها أربعة آلاف جنيه ـ لو جاء مشتر ـ يعنى الفلاح صرف5000 جنيه وباع بـ أربعة ، الفلاح يخرج مديونا بألف جنيه من زراعة الذرة بدل الأرز، لذلك ترك الفلاح الأرض دون زراعة ومستعد لدفع غرامة التبوير ، حتى تلغى الحكومة حظر زراعة الأرز، فهو محصول لا غنى عنه ويدر دخلا ملموما، فالفدان ينتج اثنين ونصف طن بسعر أربعة آلاف جنيه بخلاف ما يخزنه من تقاوى واستهلاك أسرته، وقد أحسنت وزارة البيئة حين أضافت دخلا للفلاح من بيع القش بدلا من حرقه، فبعنا قش الفدان بالفى جنيه لمصانع العلف!

والخلاصة.. أن منع زراعة الأرز وضع الفلاح أمام اختيارات مرة إما أن يبيع الأرض أو يبنى عليها أو «يبورها» أو يترك «بطن» البرسيم الأخيرة لتكون تقاوى فتصبح وكرا للدودة التى تزحف على غيطان الذرة فيواجهها الفلاح بالمبيدات قبل وبعد الزراعة، ولو زرع الفلاح الأرز بالمخالفة تسارع الحكومة برشه بمبيدات حارقة عدوة للبيئة فيموت الأرز والاستاكوزا والصراصير والطعم والفحار والدودة ويكون الضحية لهذه الحرب بعد الفلاح هو صديقىت أبو قردان!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف