محمد السعيد ادريس
تحديات ما بعد انتفاضة حيفا
كانت الأيام القليلة الماضية أياما فلسطينية بجدارة، ألجمت كل من اعتقدوا أن جهودهم أثمرت فى طمس معالم الصراع الأزلى فى المنطقة. فمنذ 30 مارس الماضى استطاع الشعب الفلسطينى بتجديد احتفاله بـ «يوم الأرض» إعادة إحياء الوعى الوطني، وربما الوعى العربي، بجوهر الصراع مع الكيان الصهيوني. قرر الفلسطينيون تأسيس «مسيرات العودة الكبرى» إلى فلسطين، ليؤكدوا للعالم أن الوطن القابع خلف جدران الحدود المصطنعة هو الوطن الفلسطيني، وأن العودة إلى هذا الوطن هى الخيار الذى لا تراجع عنه، ونجحوا فى أن يجعلوا من يوم احتفالات الإسرائيليين والأمريكيين بما يعتبرونه «عيداً للاستقلال» فى رواياتهم الكاذبة، أو عيداً للنصر الكبير يوم الاثنين الماضى يوم نكبة للإسرائيليين والأمريكيين معاً بعد أن كان نكبة للشعب الفلسطينى على مدى تلك السنوات.
فعندما جاءت ايفانكا ابنة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب وزوجها اليهودى كوشنر على رأس وفد أمريكى كبير للاحتفال بنقل سفارة بلادهم إلى القدس تزامناً مع العيد السبعينى لتأسيس دولة إسرائيل كان الشعب الفلسطيني، فى كل أرض فلسطين يرد عليهم بالدم، «أنتم كاذبون» وما يقوله رئيسكم «كذب» القدس ليست إلا للشعب الفلسطينى والأرض ليست إلا للشعب الفلسطيني.
كثيرون لم يصدقوا جدية هذه الرسالة التى انطلقت من دماء 60 شهيداً و2500 مصاب يوم احتفالات نقل السفارة، وصدروا روايات التشكيك فى هذه الجدية، مؤكدين على لسان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نيتانياهو أن كل ما حدث هو «مؤامرة» من حركة «حماس»، وأن ليس فى مقدور أحد أن يشكك فى عظمة النجاح الإسرائيلى فى إقامة «الدولة المنتصرة»، وما هى إلا أيام، حتى جاء الرد من قلب فلسطين المحتلة عام 1948، أى من قلب إسرائيل من حيفا، عندما تظاهر أهلها مؤكدين وحدة الهوية الفلسطينية، ووحدة الأرض الفلسطينية، ووحدة القضية الفلسطينية، مؤكدين فشل كل الجهود الإسرائيلية والدولية لطمس هوية الشعب الفلسطينى وطمس قضيته فى عمق الكيان الإسرائيلى نفسه. اعتقلت حكومة نيتانياهو يوم السبت الفائت (19 مايو 2018) 21 فلسطينياً من أهالى حيفا الذين خرجوا لاستكمال مشوار مسيرة العودة الكبرى مع أشقائهم فى قطاع غزة والضفة الغربية وليردوا على أكاذيب حكومة نيتانياهو حول «صراع الوجود» وترويجه وحكومته لأكذوبة مشروعهم للسيطرة على الأرض الفلسطينية من النهر إلى البحر وتأكيدهم أن هذه الأرض هى الشعب واحد هو لشعب اليهودي» ما يعنى أن الفلسطينيين ليسوا أكثر من أقلية عرقية تعيش «عالة» ضمن الدولة اليهودية. خروج أهالى حيفا للتظاهر كان من أجل وحدة فلسطين، ووحدة الهوية، ووحدة الأرض، وأن الأرض هى أرض فلسطين، والوطن هو وطن الشعب الفلسطيني، مؤكدين فشل كل جهود تفكيك الهوية الوطنية الفلسطينية، وكل جهود طمس حقيقة الصراع حول الأرض الفلسطينية وتعرية حقيقة الكيان الصهيوني، أنه كيان طارئ استثنائى وغريب عن أرض فلسطين ومآله حتماً إلى زوال. انتصار فلسطينى أكيد يتفوق بمراحل كثيرة على ما كان يأملون فى فرضه بالاعتراف الأمريكى بالقدس عاصمة لدولتهم، فقد كسبوا عاصمة لكنهم خسروا دولة ظلوا يحلمون بها. هذه النتيجة تطرح تحديات كبرى أمام حكومة إسرائيل وأمام الإدارة الأمريكية، وأيضاً أمام السلطة الفلسطينية وأمام الحكومات العربية. ماذا ستفعلون أمام هذه الحقائق؟
فى فلسطين يعيش الآن أكثر من ستة ملايين فلسطينى وهو عدد يوازى إن لم يكن يفوق أعداد الإسرائيليين ناهيك عن ملايين الفلسطينيين فى الشتات.. فكيف سيتم حل مثل هذا الصراع بعد ما أسقطت كل مشاريع التسوية السابقة؟ لن يستطيع نيتانياهو وحكومته ولن يستطيع ترامب وإدارته الهروب من الحقائق التى فرضتها انتفاضة أهالى حيفا وقبلها تظاهرات العودة فى الضفة الغربية وقطاع غزة التى أسقطت دعايات وأكاذيب 70 عاماً من الدعاية المضللة وبرامج طمس الهوية وتفكيك معالم الوطن. لقد أنهى ترامب نيتانياهو فرص حل الدولتين فهل يقبلون بالدولة الواحدة كحل نهائي، دولة ديمقراطية واحدة لكل شعب الوطن الفلسطينى شرط أن يعود الغرباء من حيث أتوا إلى أوطانهم الأصلية؟ هل يقدرون؟!
السؤال مهم، وهو نفسه سؤال مطروح على السلطة الفلسطينية وقيادات المنظمات الفلسطينية الذين تجاوزهم الشعب الفلسطينى بتظاهراته وبشهدائه الذين أسقطوا بدمائهم مشروع تسوية أوسلو، وأنهوا تضليل السلطة الفلسطينية حول «التنسيق الأمنى مع الكيان الصهيوني». لم يعد ممكناً المضى فى مشروع تسوية على حساب حقوق الشعب الفلسطيني، ولم يعد ممكناً الاستمرار فى ملهاة أو مأساة «المصالحة الفلسطينية»، لم يعد ممكناً أن يبقى الشعب الفلسطينى وحقوقه ضحية لصراعات الثنائى: «فتحب وبحماس». ولم يعد ممكناً بقاء قيادة فلسطينية تقبل بالتعايش والتصالح مع كيان يرى أن السلام هو سلام «الشعب اليهودي»، وأن الأرض هى فقط أرض «الشعب اليهودي».
قرارات المؤتمر الوطنى الفلسطينى فى الاختبار الآن، وموقف القوى المعارضة لهذا المؤتمر الوطنى الفلسطينى هو الآخر فى الاختبار وبالتحديد الجبهة الشعبية وحركتا «حماس» و«الجهاد الإسلامي» الفلسطيني. التحدى يواجه الجميع، لابد من رؤى جديدة تتوازى مع عمق إصرار الشعب الفلسطينى فى التمسك بأرضه. الشعب الفلسطينى مهيأ الآن أكثر من أى وقت مضى لتفجير انتفاضة شعبية جديدة، ولن يقبل بأى مساومة من القيادات تجهض فرص تفجر هذه الانتفاضة التى سيكون بمقدورها أن تفرض على الجميع إقليمياً ودولياً الإنصات لإرادة الشعب الفلسطيني. لم يعد ممكناً عربياً الركون إلى «أكذوبة» توارى زخم القضية الفلسطينية، ولم يعد ممكناً تجاهل الأنّات المكبوتة فى عمق الضمائر الشعبية العربية التى تتوحد مع مطالب الشعب الفلسطيني. لم يعد ممكناً مخاطبة الرئيس الأمريكى أن يكون عادلاً. الرجل يؤكد، دون مواربة،، أنه مع كل ما تريده إسرائيل، ولم يعد ممكناً استجداء إدانة من الأمم المتحدة أو المنظمات الإنسانية أو المطالبة بلجان تحقيق فى جرائم إسرائيل على غرار قرارات وزراء الخارجية العرب أو القمة الإسلامية الأخيرة فى تركيا. مطلوب دعم إرادة الشعب الفلسطينى فى المقاومة، مطلوب دعم هذا الخيار، خيار تمكين الشعب الفلسطينى من حماية حقوقه، والقبول فقط بما يريده هذا الشعب، فهو وحده صاحب الحق فى أن يرسم معالم مستقبل فلسطين، لأنه هو وحده الآن الذى يدفع ضريبة الدم، ويرفض حلول المساومة على الحقوق أو الاستسلام للضغوط أياً كان مصدرها، وأكبر دليل على ذلك المظاهرات الصاخبة للشعب الفلسطينى فى حيفا التى خرجت تعلن التحدى وتؤكد الإصرار على التمسك بالوطن فلسطينياً عربياً، وتؤكد أن القدس ستبقى عاصمة لفلسطين العربية.