مدحت بشاى
حلم التسامح فى زمن الجنوح الطائفى (2)
ونحن نستقبل نفحات بداية شهر رمضان الكريم.. مع الأصوام والعبادات تصفو النفوس وترق المشاعر وتسود حالة من السلام والتحاب والود بين الناس، وكل عام وشعبنا الطيب بخير وبركة وأمن وسلام.. بتلك التهنئة كان مفتتح الجزء الأول من مقالى، وأشرت إلى أن السعى لتكريس قيم التسامح الدينى بات ضرورة كضرورة الوجود الإنسانى والحياتى والمجتمعى سعيًا إلى إنشاء حالة من الارتقاء والتقدّم والتنمية.
فى كتاب بديع وهام للمفكر الفيلسوف سلامة موسى بعنوان «حرية الفكر وأبطالها فى التاريخ».. يقترب الكاتب الوطنى من قيمة التسامح فى الإسلام.. وهنا أتناول جوانب أخرى من الكتاب تكملة للجزء الأول من المقال بالمناسبة الكريمة:
يكتب موسى.. وممن حظى بالمكانة العليا عند الخليفة المهدى تيوفيل ابن توما النصرانى المنجم وكان على مذهب الموارنة من سكان لبنان. وله كتب فى التاريخ جليلة ونقل على مذهب الموارنة من سكان لبنان. وله كتب فى التاريخ جليلة ونقل كتاب أميروس إلى السريانية بأفصح عبارة.. وممن ارتفع شأنه عند الرشيد من الفلاسفة بختيشوع الطبيب وجبريل ولده ويوحنا بن ماسوية النصرانى السريانى (الذى تقدم أن الرشيد جعله مديرًا لجميع مدارس بغداد). ولاه الرشيد ترجمة الكتب القديمة طبية وغيرها وخدم الرشيد ومن بعده إلى المتوكل. وكان يعقد فى داره مجلسًا للدرس والمناظرة، ولم يكن يجتمع فى بيت للمذاكرة فى العلوم من كل فن مثل ما كان يجتمع فى بيت يوحنا بن ماسوية.. وممن علا قدره فى زمن المأمون يوحنا البطريق مولى المأمون أقامه كذلك أمينًا على ترجمة الكتب من كل علم من علوم الطب والفلسفة. وكذلك ارتفع شأن سهل بن سابور وسابور ابنه وكانا نصرانيين. وولى سابور بن سهل مارستان جند يسابور..».. يذمر سلامة موسى تلك الأمثلة للدعوة للتشبث بمفاهيمها ودلالاتها على طيب العلاقات وحالة التسامح وتفعيل أطر «المواطنة».
فى ديسمبر 1970 خصصت مجلة «الهلال» عددًا كاملًا عن القرآن.. ورأت أن تستكتب فيه البابا شنودة ليعرض فيه وجهة نظره ويسرد علاقته بالقرآن الكريم.. وبالفعل ساهم البابا فى العدد بمقال عرض فيه لوقع الحديث عن السيدة مريم والنصارى فى آيات القرآن الكريم.. ونستكمل هنا بجوانب أخرى لما أشرت إليه فى الجزء الأول من مقالى، والذى يعد محطة فكرية مهمة لقداسته: «تعرض القرآن للمسيحية.. شرح كيف أنها ديانة سماوية، ديانة إلهية، نظرة القرآن إلى النصارى: يدعوهم القرآن «أهل الكتاب» أو «الذين أوتوا الكتاب من قبلهم» أو «الذين آتيناهم الكتاب» أو «النصارى». ويصفهم القرآن بالإيمان وعبادة الله، وعمل الخير. ويقول فى ذلك (مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ). «سورة آل عمران 113، 114». ويقول أيضًا: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) «سورة البقرة 121». (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ). «سورة النساء 131». ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ). «سورة القصص 52». هم إذن من المؤمنين، يعبدون الله ويسجدون لله وهم يتلون آيات الكتاب طوال الليل. يؤمنون بالله وبالكتاب واليوم الآخر، وهم من الصالحين، ولذلك أمر القرآن بمجادلتهم بالتى هى أحسن. وفى ذلك يقول (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) «سورة العنكبوت 46». ولم يقتصر القرآن على الأمر بحسن مجادلة أهل الكتاب بل أكثر من هذا: وضع القرآن النصارى فى مركز الإفتاء فى الدين فقال: (فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ) «سورة يونس 93». وقال أيضًا: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) «سورة الأنبياء 7». ووصف القرآن النصارى بأنهم ذو رأفة ورحمة: وقال فى ذلك (وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) «سورة الحديد. 27». واعتبرهم القرآن أقرب الناس مودة للمسلمين، وسجل ذلك فى سورة المائدة حيث يقول: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ) «سورة المائدة 82». ونلاحظ فى هذه الآية القرآنية تمييز النصارى عن الذين أشركوا. لأنها هنا تذكر ثلاث طوائف واجهها المسلمون، وهى اليهود والذين أشركوا فى ناحية، والنصارى فى ناحية أخرى. فلو كان النصارى من المشركين، لما صح هذا الفصل والتمييز. إن التمييز والفصل بين النصارى والمشركين أمر واضح جدًا فى القرآن.. ولا يقتصر على النص السابق... كل عام وقراء جريدتنا الغراء بخير وسماحة وسلام.