د. أحمد دراج
المـــــأزق المشــــــترك
مما لا شك فيه ان دولة ما بعد 30 يونيو "لا اقصد بذلك نظام الحكم وحده" ستظل الي وقت غير قصير بحاجة لمساندة ودعم المجتمع في مقاومة ظواهر التطرف والإرهاب والفساد والترهل الإداري والانفلات القيمي. لأنه لا قبل لمؤسسة واحدة أو مؤسستين أو أكثر من مؤسسات الدولة واجهزتها الصلبة بمقاومة تلك الظواهر الاجتماعية والسياسية والأمنية بمعزل عن المجتمع بجميع قواه الخشنة والناعمة من مفكرين ومثقفين ونخب سياسية واعية باعتبارها الضمير الحي للأمة.
ورغم وضوح ذلك لكل ذي عقل مازالت مؤسسات الدولة التقليدية تخلط أدوارها الوظيفية بوظائف نظام الحكم وتقاوم بشراسة عملية التغيير والتحديث وإعمال مبدأ الشفافية وتداول المعلومات وإقرار مباديء العدالة الاجتماعية. وتلك المقومات الاساسية لا سبيل إلي نهوض البلاد وتقدمها بدون توافرها مع الإرادة السياسية وتحديث منظومة الإدارة من جذورها. أما الإصرار علي دمج النظام في الدولة والدولة في النظام رغبة في استنساخ الماضي وترميم ثقافة حكم الفرد أو استعادة مقوماته ورموزه - خوفا أو طمعا في ظل متغيرات داخلية وإقليمية ودولية - سيؤدي إلي زيادة الاحتقان والانقسام المجتمعي ستكون عواقبه وخيمة» لأنها تهدد بانتكاسات قد تعرض كيان الدولة وهويتها للخطر. فما هو المخرج الآمن من هذا المأزق المستحكم منذ عدة عقود؟ أليس المخرج في دولة العدل والقانون والمواطنة؟
وبما ان الشواهد المنظورة تشير الي عدم قدرة الدولة الجديدة بمكوناتها التقليدية علي تفهم واستيعاب متغيرات العصر وآلياته وأفكار الشباب الواعد وطموحاتهم في العمل والحياة الكريمة. وان ما تفرضه العولمة من قيم جديدة تؤثر علي الهوية والانتماء وتفكيك الوحدات الذهنية للعقل الجمعي وتصدعه فإن ما تقتضيه اللحظة الراهنة فهم اعمق وأشمل للسياق النفسي والاجتماعي لمكونات المجتمع العريضة شبابا وشيباً رجالا ونساء وأطفالا. لأن الإصرار علي استمرار تشييد أحلام الحاضر والمستقبل علي أنقاض الماضي بخطاب يدغدغ المشاعر ويناقض بديهيات العقل والمنطق - لن يؤدي إلا إلي تأجيل مؤقت للحظة الاصطدام بالواقع إلي الزمن المجهول.
إن المراقب للمراحل الفائتة من خارطة الطريق وما قبلها يلحظ أن الدولة الجديدة لا تثق في مكونات المجتمع الأخري وتعتمد علي القوة الصلبة وحدها في ترميم الجسور مع الماضي بتفاصيله وتتجاهل أشواق التغيير والتطوير العملي وتعصف بممارساتها مباديء ونصوص الدستور الجديد الذي لم يجف حبره بعد. فهل تظن تلك القوي ان مؤسسات الدولة وهيئاتها الإدارية التقليدية تستطيع مصارعة الحاضر وتتحدي عوامل الزمن؟
إن الحقائق البادية تسلم بحاجة المجتمع المصري بجميع مكوناته إلي الدولة ككيان سياسي وإداري واجتماعي متماسك ومستقر لتلبية حاجاته في النمو والتنمية والتقدم وتقابله من الناحية الأخري حاجة الدولة ومؤسساتها الي تجديد خلاياها المتهالكة بفعلي الاستبداد والظلم الاجتماعي والطبقية لعقود مضت. ومن ثم فإن الدولة بحاجة الي بناء رضاء مجتمعي عام يستند الي رؤي قواه الناعمة من مفكرين ومثقفين وإعلاميين فالهوة القائمة بين مؤسسات الدولة وقواها الناعمة لا يمكن ان تجسر دون مشاركة طرفي المعادلة. ومصر الجديدة بحاجة أيضاً الي بناء قوة مجتمعية شعبية حقيقية واعية تعمل مع مؤسسات الدولة للحفاظ علي هويتها وكينونتها بالتوازي مع حرص تلك المؤسسات علي بناء دولة العدل والقانون القادرة علي المشاركة في تقدم البشرية: دولة مدنية ديمقراطية حديثة تقوم علي احترام الدستور والقانون ووضعه موضع التنفيذ وحفظ الكرامة الإنسانية للمواطن المصري. فهل نحن جادون في هذه الشراكة العضوية والاصطفاف الواعي أم أن الأهداف والانحيازات متصادمة ونوايا بعض أطراف المعادلة تتخفي وراء مظاهر مؤقتة وخادعة قابلة للاستجابة لعوامل التصدع والانهيار؟.