الوطن
حسين القاضى
السيرة حضارة وحياة وليست حروباً وغزوات (1- 2)
بعد أن انتهيت من إعداد هذا المقال ومقال له تالٍ عن أن السيرة النبوية حضارة وحياة وليست حروباً وغزوات وسيوفاً وقتلاً ودماءً، وجدت برنامجاً تليفزيونياً للأستاذ عمرو خالد يحمل عنوان: «السيرة حياة»، وهذا معنى شديد الدقة والرصانة والأهمية، وفيه التوفيق كله.ذلك أنه حدث إغراق مخل فى قراءة السيرة من منظور سياسى ضيق ومنظور عسكرى ومن منظور صدامى وضيعوا على الأمة فرصة عظيمة فى التعامل مع السيرة النبوية كمنهج بناء وحضارة وعمران، وحرموا المسلمين من استشعار الأبعاد الحضارية للسيرة النبوية، وطغت القراءة الصدامية والعسكرية والسياسية، وهجروا سنن الحضارة والبناء والوفاء والتعارف والتفكر والجمال والتعايش والعمران والاكتشاف والتطور والإتقان حتى باتت هذه السنن مهجورة متروكة من السيرة النبوية.ودقق فى تلك الكلمة العظيمة من الإمام السبكى حين قال: «صلح الحديبية أجدى وأنفع للمسلمين من كل الغزوات، لأنه أتيح فيه لغير المسلمين أن يختلطوا بأخلاق المسلمين»، بل إن الغزوات لم تأخذ من تاريخ الإسلام كله أكثر من 100 سنة، فالعمران فى السيرة النبوية هو الفريضة الغائبة فى تصورنا لسيرة المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، وإذا كان الأستاذ محمود محمد شاكر قال عن كتاب «تاريخ العامية» للدكتورة نفوسة زكريا إن الأمر لو كان بيده لجعل هذا الكتاب فى كل بيت، فإن مثل هذا يُقال على كتاب «تخريج الدلالات السمعية على ما كان فى عهد رسول الله من الحرف والصنائع والعمالات الشرعية» لمؤلفه العلامة على بن محمد بن سعود الخُزاعى، وكتاب «التراتيب الإدارية فى العمالات والصناعات والمتاجر والحالة العلمية التى كانت فى عهد تأسيس المدينة المنورة» لمؤلفه العلامة محمد عبدالحى الكتانى المغربى.أما كتاب «تخريج الدلالات السمعية» للخُزاعى، فقد جمع فيه ما كان فى عهد رسول الله من صنائع وحرف ومهن، ومن المهن التى كانت فى عهد النبوة مهنة البزاز، أى تاجر الملابس، وقد اشتغل بها عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيدالله، ومهنة بائع العطور، حتى إن البخارى فى صحيحه جعل باباً بعنوان «العطار وبيع المسك»، ومهنة الصراف، وهو بائع الذهب والفضة، وبيع الرماح، واشتهر بها الحارث بن عبدالمطلب، ومهنة الدباغ، والحطاب، والحداد، والدلال، والنساج، والخياط، والنجار، وناحت الأقداح، والدباغ، والسقاءة، والطباخ، والشواء، والماشطة، وهى اليوم تشبه «الكوافير»، والمرضعة، والصيد، سواء كان بالسهم أو بالرمح أو باليد أو بالآلات، وانظر إلى ما جاء فى الصيد فى القرآن، كما اتخذ رسول الله مكاناً للفقراء الذين ليس لهم أهل ولا مال، كما اهتم رسول الله بمهنة الغناء، وانتشر المغنون فى عهده، سواء الذين يغنون فى الأعياد أو الأفراح أو المناسبات، أو من كان يغنى لقدوم رسول الله من سفره، ومن أشهر المغنيات أرنب، وجميلة، وزينب، ووضع الكتانى فى كتابه عنواناً يقول: «ذكر أسماء المغنيات فى المدينة فى العهد النبوى».وقد وضع الإسلام شروطاً لكل مهنة، كالإتقان والدقة والأثر الطيب وإعطاء الأجر المناسب بعد أن ينتهى العامل من عمله، وما التقدم الذى عرفته البشرية إلا بكثرة المهن والحرف وإتقانها وتطورها وخلق فرص عمل من خلالها.ومن تأمل شروط هذه الصنائع والمهن وما بثه رسول الله من تعاليم فى آداب الاجتماع وطرق التواصل والتعارف والتمازج وتهذيب النفوس علم أن التمدن الإسلامى قام إبان عصر النبوة وليس بعدها..وللحديث بقية إن كان فى العمر بقية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف