هانى عسل
برنارد لويس .. ارقد فى سلام!
مات برنارد لويس، ولكن أفكاره لن تموت.
قبل أيام، توفى الكاتب والباحث والمستشرق والأكاديمى والمفكر السياسى البريطانى الأمريكى فى مركز طبى بنيوجيرزى قبل 12 يوما من عيد ميلاده الـ102، تاركا وراءه عالما مرتبكا وشرق أوسط مشتعلا، كما أراد تماما.
لم يبالغ الراحل إدوارد سعيد عندما اتهمه بالانحياز ضد العرب والمسلمين، وبأنه «لا يفهم الشرق الأوسط جيدا كما يتصور»، ومع ذلك، سيظل الغرب ينظر إلينا لمدة مائة سنة قادمة على الأقل بنظارة هذا الرجل، فما كتبه عن المنطقة هو الأساس الأيديولوجى للسياسات والقرارات الغربية الحالية تجاه دولنا، ولم يبق منه سوى القليل جدا الذى لم يتحقق عمليا.
ارتبط اسم وفكر لويس، أو «سيد قطب الاستعمار الجديد»، بـ«المصائب» التى حلت بعالمنا العربي، منذ حرب العراق عام 2003، ومرورا بموجات «الخراب العربي» التى بدأت «ياسمينا» فى تونس، وانتهت حنظلا و«صبارا» فى سوريا واليمن وليبيا، وأفلتت منها مصر، ولو مؤقتا.
قال فى كتابه «الإيمان والسلطة» عام 2010 عن شعوب الشرق الأوسط : «إما أن نأتى لهم بالحرية، أو أن نتركهم يدمروننا»، وقال فى سياق آخر موجها نصائحه إلى القادة الغربيين «كن قاسيا .. أو اخرج»، فوضع بذلك اللبنة الأولى فى مخططات غزو المنطقة العربية ونهب ثرواتها وتقسيمها إلى دويلات طائفية صغيرة، تحت مسمى نشر الديمقراطية تارة، وتحت مسمى محاربة الإرهاب تارة أخري، كما تُنسب إليه مجموعة شهيرة من الخرائط التى تظهر فيها دول كبرى فى المنطقة وقد أصبحت عشرين جزءا، بما فيها مصر والسعودية وسوريا والعراق والسودان، وقد تحقق من هذه الخرائط حتى الآن حرفيا ما جرى فى العراق والسودان وسوريا، أما مصر تحديدا فظهرت على خريطة سايكس بيكو 2 مقسمة إلى أربع دويلات، دولة تضم سيناء وشرق الدلتا تحت النفوذ الإسرائيلي، وثانية مسيحية عاصمتها الإسكندرية، وثالثة نوبية فى الجنوب عاصمتها أسوان وتشمل أراضى من السودان، ودولة رابعة إسلامية عاصمتها القاهرة.
كما لا ننسى لصاحبنا - المولود بالتزامن مع سايكس بيكو الأولى - محاولته تبرير الاحتلال البريطانى لمصر، فقال فى كتابه «الإسلام والغرب» عام 1993 إن بريطانيا صنعت «جميلا» للمصريين بفك رموز الهيروغليفية، وهو ما يثبت بحسب رأيه أن بريطانيا لم تكن لها أى أغراض استعمارية فى مصر!
انحاز لويس بحكم تنشئته اليهودية وحبه الشديد لـ«دولة إسرائيل» إلى الغرب على طول الخط، وأيد تدخلاته لفرض الحرية والديمقراطية على الشعوب العربية والإسلامية، فكانت آراؤه السند الذى ارتكن إليه تيار المحافظين الجدد فى الولايات المتحدة، وتحديدا فريق «الصقور»، وعلى رأسهم جورج بوش الابن ونائبه ديك تشينى وبول وولفويتز وغيرهم، وتعد نظرية «الفوضى الخلاقة» لكوندوليزا رايس وزيرة الخارجية السابقة أحد منتجات هذا الفكر.
لويس أيضا كان أول من اشتق مصطلحات لم تكن معروفة فى الغرب، مثل «الأصولية الإسلامية» و«الإسلام المسلح»، وكان أيضا أول من تحدث عن «صراع الحضارات» قبل صامويل هانتينجتون للتعبير عن الصراع القديم المتجدد بين الإسلام والمسيحية، وكان ذلك تحديدا فى لقاء عقد فى واشنطن عام 1957.
له آراء إيجابية عن الإسلام بشكل عام، ولكنه لا ينكر خطره على الغرب، ففى مقال «ترخيص بالقتل» تنبأ بهجمات سبتمبر 2001 عندما قال إن أيديولوجية «الجهاد» التى يطرحها أسامة بن لادن ستشكل تهديدا للغرب.
وفى 2002، كتب فى «وول ستريت جورنال» عن حرب العراق «القادمة» مقالا شهيرا عنوانه «وقت الإطاحة»، شرعن فيه لمبدأ قلب الأنظمة، فقال : «إن الإطاحة بنظام ربما يكون أمرا خطرا، ولكن أحيانا خطورة اللا فعل تكون أسوأ من الفعل نفسه»، ولذلك وصف بأنه «العقل المدبر وراء غزو العراق»، ثم كانت أفكاره الأساس الأيديولوجى أيضا للتوجه الأمريكى نحو تأليب الشعوب على أنظمتها وبدء ما يعرف باسم «الربيع العربي»، ففى عام 2008، لم يطالب فقط بفرض الديمقراطية والحرية على الدول الإسلامية، إذ اعتبرها أمورا لا يمكن فرضها، ولكنه وصفها بـ«الدواء المر» الذى يجب تناوله بالتدريج، ولهذا، طالب العرب أو المسلمين بأن يتناولوا «الدواء» بأنفسهم، وهو ما يحدث الآن بالفعل، خراب وتقسيم وطائفية، بناء على طلب الجماهير!
.. برنارد لويس .. ارقد فى سلام، فالشرق الأوسط يتفكك ويتغير، وبأيدى أبنائه، لا بأيدى غيرهم.
ارقد فى سلام يا «بروف»، فمنطقتنا الآن تستعد لتمكين أجيال ترى الانتماء للوطن والتضحية من أجله نفاقا وتطبيلا و«موضة قديمة»، وخيانته وابتزازه وشتمه حقاً، وبطولة، ونضالا!