من حقنا واللغة العربية التى ينص الدستور على أنها لغتنا القومية تواجه خطر الموت أن نسأل الهيئة التى أنشئت منذ أكثر من خمسة وثمانين عاما لحمايتها ورعايتها عما قدمته لتضمن للفصحى حياتها وتدفع عنها الأخطار التى تهددها وتمكنها من أن تحتل المكان الرفيع الذى يحق لها أن تحتله ولتؤدى رسالتها الوطنية التى يجب أن تؤديها ـ أقول من حقنا أن نسأل هذه الهيئة الموقرة، والمقصود بها مجمع اللغة العربية، عما قدمته لهذه اللغة التى أصبح وجودها مهددا، وهى التى يدين لها المجمع بوجوده. ونحن نعرف أن إنشاء المجمع كان حلما من أحلام المثقفين المصريين الرواد الذين أدركوا منذ وقت مبكر أن حياة الفصحى وحمايتها وتزويدها بما يمكنها من أن تعيش فى هذا العصر الحديث وأن تتعامل بكفاءة معه وتتجاوب مع أفكاره وقيمه واكتشافاته وعلومه شرط جوهرى لا تتحقق بدونه النهضة المصرية التى بشر بها هؤلاء الرواد وجاهدوا فى سبيلها واجتهدوا وأنجزوا الكثير الذى خرجنا به من عصور الظلام ودخلنا عصر الأنوار، ومن هذا الكثير الذى أنجزه هؤلاء الرواد مجمع اللغة الذى أنشئ على الأساس الذى أنشئت عليه الأكاديمية الفرنسية. تماما كما أنشئ مجلس شورى النواب، ودار الكتب، ودار العلوم، والمتحف، والفرقة القومية للمسرح على الأساس الذى أنشئت عليه مثيلاتها فى فرنسا. وقد لاحظت فى بعض ما أصدره المجمع عن قانونه وما طرأ عليه من تعديلات أن المرسوم الذى صدر فى القاهرة عام 1932 بإنشاء مجمع ملكى للغة العربية منشور بنصه العربى إلى جانب نص فرنسى له لا أعرف إن كان إنشاء أو ترجمة. والمهم أن الظروف والأسباب التى دعت لإنشاء الأكاديمية الفرنسية أو مجمع اللغة فى فرنسا هى الظروف والأسباب التى دعت لإنشاء المجمع فى مصر. وهى ظروف ودواع اتصلت فيها اللغة والتطورات الفكرية عامة بالتطورات السياسية. ففى الوقت الذى نشأت فيه الأكاديمية الفرنسية منذ نحو أربعة قرون كانت فرنسا قد أصبحت دولة وطنية مستقلة لا تخضع للفاتيكان كما كان الوضع من قبل. تماما كما أن التفكير فى إنشاء مجمع اللغة فى مصر بدأ فى القرن التاسع عشر ومصر تسعى جاهدة لتتحرر من تبعيتها للسلطان العثمانى الذى كان يزعم أنه خليفة الرسول وظل الله على الأرض وتصبح دولة وطنية مستقلة بعد أن ظلت ألفى عام وهى ولاية تابعة للامبراطوريات الدينية التى نشأت فى المنطقة، مع فارق مهم، هو أن وطنية الدولة فى فرنسا استدعت أن تكون اللهجة العامية التى كان الفرنسيون يتحدثون بها اللغة اللاتينية هى لغتهم القومية التى انحازوا لها بعد أن تحرروا واستقلوا وفصلوها عن أصلها اللاتينى وقرروا أن يزودوها بما كان ينقصها لتتحول من كونها لهجة عامية لتصبح لغة مكتملة مثقفة. أما فى مصر فقد كان إنشاء الدولة الوطنية على يد محمد على وخلفائه فرصة لإحياء العربية الفصحى ورد الاعتبار لها وإحلالها محل اللغة التركية التى كانت إلى أواسط القرن التاسع عشر لغة الحكم والإدارة. فالعربية هى البديل الوطنى للغة الغزاة الأتراك.
وهى لغة مثقفة من الأصل لها تاريخها الحافل فى الثقافة وفى الحكم والإدارة. فضلا عن أنها اللغة التى يؤدى بها المسلمون شعائرهم الدينية.
هكذا ارتبطت الفصحى بالنهضة المصرية الحديثة وبما تحقق فيها، فهى اللغة المستخدمة فى أول برلمان مصري، وفى دواوين الحكومة، وفى المدارس العليا، وفى الصحافة وفى غيرها من ميادين هذه الحياة الجديدة التى عرفها المصريون منذ أوائل القرن التاسع عشر. ومعنى هذا أن العربية الفصحى أصبحت مطالبة بأن تسمى هذه الحياة وأن تتحاور معها وتعبر عنها وتعرف نظمها وقوانينها وأدواتها وتدخلها فى معجمها وتزود بها المصريين الذين أصبحوا يعملون فى المصانع، ويحملون البنادق، ويطلقون المدافع، ويركبون البواخر، والطائرات، والسيارات، والدراجات، والقطارات، ويشاهدون العروض المسرحية والأفلام السينمائية، ويدرسون الطب، والهندسة والفلك، فلابد أن يجدوا فى لغتهم القومية ما يمكنهم من ممارسة هذه الحياة الجديدة والاندماج فيها. وهكذا بدأ السعى منذ أواخر القرن التاسع عشر لإنشاء كيان يعمل على إحياء اللغة الفصحى وتجديدها، وتعددت المحاولات التى قام بها كبار المثقفين المشتغلين باللغة والعلم والسياسة من أمثال الإمام محمد عبده، والشيخ الشنقيطي، والشيخ توفيق البكري، ومن بعد هؤلاء أحمد لطفى السيد، وحفنى ناصف، وحمزة فتح الله.. إلى أن تشتعل الثورة ويحصل المصريون على استقلالهم ويصدر المرسوم الملكى سنة 1932 بإنشاء مجمع لغوى يتولى الحفاظ على سلامة اللغة العربية وجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون ومستحدثات الحضارة المعاصرة، ويعمل على وضع معجم تاريخى لغوي، ويعتنى بدراسة اللهجات الدارجة.
ما الذى قام به المجمع منذ إنشائه حتى الآن لتحقيق هذه الأهداف التى حددها المرسوم الصادر بإنشائه؟
لا أجد إجابة أطمئن لها، لأن الحال التى صارت إليها اللغة لا تجعلنا نصدق ما يعلنه المجمع عن نشاطه.
والمجمع يقدم عن نشاطه أخبارا تنشر بين الحين والحين، ولا يطلعنا على ما يقدم فيه من أعمال وأبحاث ومناقشات لنقرأها أو نقرأ عنها ونناقشها معه ونستفيد منها، وهو فى هذا مقصر. ليس فقط فى إطلاعنا على ما يقوم به، بل فى أداء وظيفته الأساسية وهى حماية اللغة ورعايتها، لأن هذه الحماية لا تتحقق بالكتمان وإنما تتحقق بالنشر والإعلان بالعمل مع الصحف والإذاعات والهيئات والمؤسسات العامة والخاصة على العريف بنشاط المجمع والوصول به إلى الجمهور الواسع. فإذا كان هذا النشاط لا يصل إلى المشتغلين بالكتابة فلمن يصل؟
والمفترض أن يكون للمجمع منبر ينشر فيه أبحاثه ويخاطب منه المهتمين بنشاطه. وأنا لا أعرف شيئا عن هذا المنبر.
المفترض أن يكون المجمع مرجعا من المراجع التى يحتكم لها الناس فى قضايا اللغة والأب وأنا لم أقرأ شيئا عما أفتى به المجمع فى قضايا كثيرة لم نسمع له فيها صوتا.
هل نقول إن المجمع بدلا من أن يعالج اللغة من الأمراض التى أصيبت بها انتقلت إليه عدواها؟!