السياسة هي فن إدارة الشأن العام ، سواء على مستوى النظم السياسية والحكومات أو على مستوى الأحزاب المعارضة أو اي مشتغل بالشأن العام ، وفن الإدارة السياسية يقتضي مراعاة التوازن والحفاظ على السلام الاجتماعي واستقرار الدولة وتفكيك أي مسببات للتوتر الشديد أو ما يسبب إثارة للشعور الجمعي ومن ثم للقلاقل في البلاد ، وفي هذا السياق تكون هناك فكرة "المواءمات" في القرارات السياسية وما يتعلق بها ، فإذا غابت تلك "المواءمات" ظهر الاضطراب في القرار السياسي وفتح الباب أمام توترات لا معنى لها وكان يمكن تخطيها بسهولة .
تعاني مصر الآن من اتهامات دولية بما يسمى "عسكرة الدولة" ، وتتحدث صحف عالمية ووكالات أنباء عالمية في تقارير عديدة عن هذا المعنى ، بصيغة أو أخرى ، ولسنا هنا في مجال دفع الاتهام أو تفسيره أو تأويله ، وإنما في مجال رصد ما يجري حولنا ، فهل هذا السياق الذي تحياه مصر ، وفي ظل تلك الاتهامات والشبهات التي ينثرها آخرون بالحق أو بالباطل ، يتم اختيار المتحدث العسكري السابق باسم القوات المسلحة ليكون نائبا لرئيس حزب المعارضة الرئيسي أو مساعدا له ؟ ، هل هذه الخطوة تحترم أي قاعدة من قواعد "المواءمات السياسية" في أي بلد يعرف ألف باء السياسة ؟ ، هل انضمام العميد محمد سمير لحزب الوفد ليكون مساعدا لرئيسه الجديد والذي هو والد مستشار رئيس الجمهورية ، هل هذه الخطوة تمثل خدمة للاتهامات الدولية المشار إليها أم نفيا لها ؟ .
أيضا ، عندما يتحدث رئيس الجمهورية عن صعوبة الإنفاق على البنية الأساسية للبلاد وتحديث بعض قطاعاتها الحيوية مثل هيئة السكك الحديدية ، لقلة المال ، وأن الدولة بحاجة إلى شد البطون وتقليل الإنفاق ، ثم يقول أنه مضطر لرفع الأسعار على الخدمات الرئيسية التي تمس ملايين الفقراء والبسطاء ، مثل رفع أسعار المواصلات العامة وشبكة المترو ورفع أسعار الوقود لتغطية هذا النقص الذي تعانيه الدولة ، وأن على الفقراء أن يتحملوا ، وأنه يتفهم تضحياتهم ، ثم في نفس الوقت تصدر القرارات والتشريعات التي ترفع رواتب الوزراء وكبار المسئولين في الدولة بنسب كبيرة للغاية ، ويصدق رئيس الجمهورية على تلك القرارات ، فهل هذا التناقض يبعث برسالة إيجابية إلى الناس ، إلى الشعب ، أم أنه يعطي الرسالة الأكثر خطورة ، وهي أن ما يعني القيادة هم فئة صغيرة من معاونيها ومسانديها ، وبقية الشعب لا اعتبار له ، وعليه أن يقبل ما يملى عليه أو يشرب من البحر .
أيضا ، لا أعرف المعايير التي تم على أساسها الإفراج بعفو رئاسي عن عدد من القتلة والبلطجية الكبار ، بمن فيهم أشهر بلطجي في مصر ، والذي ألقت أجهزة الأمن القبض عليه وصادرت ترسانة من الأسلحة والذخيرة ، وسجلت محاكمته قصصا تشيب لها الولدان من جرائمه وسطوته في عالم الجريمة ، لا يقضي سوى سنوات قليلة في السجن ، ثم يصدر رئيس الجمهورية بنفسه قرارا بالعفو عنه ، وفي الأسبوع نفسه يتم الحكم بسجن باحث سياسي عشر سنوات من خلال محكمة عسكرية بتهمة نشر أبحاث تتعلق بأوضاع في سيناء تعتبرها بعض المؤسسات مما يمس الأمن القومي ، هل المقارنة التي يجريها الآن محللون أجانب ووكالات أنباء بين الواقعتين : العفو على زعيم البلطجية وسجن باحث سياسي ، هل هي مقارنة ستخدم النظام وسمعته ، وهل يمكن أن توضع تلك المقارنة في أي قاعدة من قواعد "المواءمة" السياسية ؟ .
لقد قال الرئيس عبد الفتاح السيسي ذات يوم بأنه "مش بتاع سياسة" ، واعتبرها كثيرون زلة لسان لم يقصدها ، وأرجو أن تكون كذلك ، ولكن الذي يجري الآن في مصر من تناقضات لا يمكن أن تجري وفق أي مفهوم سياسي ، غير أن ما يجب أن يدركه الرئيس أن "السياسة" بالنسبة لقادة الدول ليست اختيارا ، بل هي ضرورة للمنصب الرفيع ، وتجاهلها يمثل خصما مباشرا من المنصب ورمزيته واستقرار النظام بكامله .