أصعب المشاكل التي تواجه الصحفي في أداء عمله تتمثل في ضبط العلاقة بينه وبين المصادر التي يتعامل معها.
سيواجه بأن لكل مصدر رؤية مختلفة عن دور الإعلام ومسئوليات الصحفي. منهم من يري ان هذا الدور ينحصر في إبراز الإنجازات التي حققها حتي لو كانت تدخل ضمن صميم الواجبات التي تم تعيينه لإنجازها والاشادة بجهوده الجبارة حتي لو كانت محدودة للغاية.
هؤلاء يعتبرون النقد مؤامرة يديرها الصحفي وأحيانا يشارك فيها المنافسون والحاقدون ولايرحبون بتوفير المعلومات للصحفي العصي علي محاولات الافساد ويرحبون بغيره من الذين يسهل إغراؤهم وترويضهم.
ومن أسف ان هذا الصنف من المسئولين. يرحب بهم من جانب بعض وسائل الإعلام التي تبرز أعمالهم المتواضعة وتحولها إلي إنجازات ضخمة.. يستحقون عليها آيات التكريم.
وعلي الجانب الآخر. نماذج أخري من المصادر لا تمارس تلك الألاعيب الصغيرة. ولا تخشي النقد بل تتخذه وسيلة للتصحيح. وترفض انفاق المال العام علي الدعاية لأشخاصهم.
كان هؤلاء دوما يحتاجون إلي متابعة جادة من صحفيين لا يبيعون ضمائرهم.. وينقلون الإنجازات طالما أنها حقيقية ويلمسها المواطن البسيط. ولا يتغافلون عن إبراز الأخطاء حتي يعرفها الناس. ويصححها المسئول وبذلك تتعمق العلاقة بين الصحفي ومصادره. علي أرضية المصارحة ومراعاة الصالح العام. وفي أحيان كثيرة تستمر تلك العلاقة حتي بعد أن يغادر المسئول منصبه. ويعتزل الصحفي عن ممارسة المهنة. ولأنها علاقة تقوم علي الاحترام المتبادل فإنها تدوم وتتوطد.
***
في عام 2004 أجريت حركة محافظين استبعد منها ثلاثة محافظين. حقق كل منهم نجاحات في أكثر من محافظة ومازالت سيرتهم العطرة بين الناس رغم مرور السنين. نجحوا في الالتحام بأبناء محافظاتهم وحققوا إنجازات عديدة.
الأول هو محمد حسن طنطاوي ومازالت بصماته في سوهاج تتمثل في اقامة حي صناعي "الكوثر" التي استوعبت ومازالت تستوعب آلاف العمال وكرر نفس التجربة في الفيوم.
والثاني هو فخر الدين خالد وعمل في بورسعيد والدقهلية ويكفي انه بعد نقله إلي الدقهلية الذي أغضب أبناء بورسعيد واستجاب لدعوة محافظها للاحتفال بعيدها القومي فحمله الناس علي الأعناق في مشهد أجبره علي ألا يستجيب لدعوات أخري مراعاة لمشاعر المحافظين الذين جاءوا بعده وحتي لا يسبب لهم احراجاً.
والثالث صلاح مصباح الذي عمل في محافظتي البحر الأحمر وأسوان.. واتخذ الخطوات الأولي لوضعهما علي خريطة السياحة.
ولست هنا في مجال الحديث عن إنجازات كل منهم.. وإنما أتوقف عند منظومة القيم التي حددت مواقفهم من الحرص علي المال العام.. وأظن ان العديد من المسئولين بحاجة لكي يتوقفوا أمامها.
تجاوزت علاقتي بهؤلاء المحافظين الجادين حدود العلاقة المهنية. كانوا يحتاجون إلي منبر محايد يتواصلون خلاله مع الناس. دون أن يتنازلوا عن مبادئهم ووفرت لهم "الجمهورية" هذا المنبر في ظل شعار ان الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية. وكما أنهم يحرصون علي المال العام. تحرص الصحيفة علي سمعتها.. ولا تتورط في المجاملات التي تسيء للطرفين.. الصحيفة والمصادر.
اتفق المحافظون الثلاثة علي أن يخصصوا يوماً كل شهر للقاء وشرفوني بأن أكون رابعهم.
اختير ناد للشرطة علي النيل بحي العجوزة ليكون مكاناً للقاء.. ولأن الداعي وصاحب الفكرة هو اللواء فخر الدين خالد فقد أصر علي أن يعتبرنا ضيوفه.
وأحاول بعد مرور السنوات أن أستعيد وقائع اللقاء الأول.
أشار المحافظون الثلاثة إلي أنه من حق الحكومة أن تستعين بوجوه جديدة وتحدث كل منهم عن الدور الذي لعبه في خدمة أبناء المحافظات التي عمل بها ما يدفعهم إلي الشعور بالرضي الكامل. وأن عتابهم ينحصر في أنهم فوجئوا بالقرار عبر رسائل الإعلام.. وكان ينبغي إبلاغهم قبل فترة كافية.
ثم انتقل الحديث إلي الشأن الخاص.. وبدأ الحديث اللواء طنطاوي.. أوضح أن دخله تأثر بخروجه إلي المعاش وبعد أن كان الراتب يتجاوز ألفي جنيه عندما كان في الخدمة نقص بعد المعاش وليس له دخل آخر.. ما يحتاج إلي ضبط الإنفاق.. والحمد لله أن المطالب محدودة.. وما يحصل عليه من معاش يكفيه.. وما يزعجني أن والدي يصر علي الاستعانة بسائقي.. وعندما سألت عن راتبه قيل لي إنه يتجاوز 300 جنيه.. فماذا يتبقي من المعاش.. وأنا لا أستطيع قيادة السيارة لقضاء مشاويري المحدودة.
ابتسم الرجل.. ثم واصل حديثه: بالطبع لن أستجيب لمطلبه.. فكم أصابه بالجنون بعد.
ضحكنا.. وإن كان ضحك كالبكاء.
الرجل الذي يتحدث إلينا كان صاحب كلمة نافذة في اختبار المسئولين علي مستوي الدولة عندما شغل منصب مدير أمن الدولة.. وكان بمقدوره أن يحصل علي الملايين لو أراد.. ثم عمل محافظاً لمحافظتين ولم يحن رأسه.. بل ويشعر أنه أغني أغنياء العالم بالجنيهات التي يحصل عليها من المعاش.
وينتقل الحديث إلي صلاح مصباح المدير السابق لحرس الحدود الذي تابعت أجهزة الإعلام إنجازاته في مطاردة مهربي المخدرات وكان بمقدوره أن يصبح من أغني الأغنياء لو أغمض عينه عن دفعة واحدة تقدر بالمليارات.. ويتحدث مصباح عن أنه كان يدفع 30 جنيهاً للبواب من أجل إحضار الدواء من المستشفي البعيد. وقرر أن يوفرها ويتوجه إلي المستشفي كل شهر "ومنها رياضة ومنها توفير".
ويمسك فخر خالد بطرف الحديث: الراتب في الأصل لم يكن يكفيه.. فما بالك بالمعاش؟!.. ولولا قطعة أرض ورثها عن والده ويبيع منها قراريط كل عام لما استطاع أن يدبر احتياجاته.
وبعد رحيلهم عن عالمنا منذ سنوات بعيدة أعتذر لهم عن إفصاح عما دار في تلك الجلسة.. ولا يخفي أنني كنت أشفق كل مرة علي اللواء فخر الذي أصر علي أن يدفع فاتورة اللقاء.. رغم أنها جنيهات محدودة.. وفي الوقت نفسه أشعر بالفخر أن في بلدنا شرفاء يقدسون المال العام ويشعر كل منهم أنه أغني أغنياء العالم رغم أن راتبه يكفيه بالكاد.. وأؤكد أن أمثالهم ممن تعاملت معهم كثر.. ضربوا لنا المثل والقدوة رحمهم الله جميعاً.. وكم نحتاج إلي أمثالهم.