فضيحة من العيار الثقيل هزت جنبات الأكاديمية السويدية التى تمنح «جوائز نوبل» الأشهر والأرفع عالميا، على خلفية اتهامات بالاغتصاب والاعتداء الجنسي، أفضت إلى تنحى ستة من أعضائها الذين يستمر تعيينهم مدى الحياة (الخالدين)، ويختارون بالاقتراع السرى، بموافقة ملك السويد، وتقرر حجب جائزة نوبل فى «الأدب» العام الحالي، لأول مرة منذ عام 1943، خلال الحرب العالمية الثانية، على أن تمنح لفائزين اثنين العام المقبل، مع استمرار منح فروع الجائزة الأخرى.
تحظى جوائز نوبل بمكانة لا تنافسها أى جوائز أخري، منذ أرسى مسيرتها ألفريد نوبل (مخترع الديناميت)، كان نوبل عالما ومخترعا، وفى عام 1888 توفى شقيقه، فنشرت إحدى الصحف السيرة الذاتية لألفريد نوبل نفسه، عن طريق الخطأ، وأدانته بشدة لاختراعه المتفجرات، ومنحته لقب «تاجر الموت»، قرأ نوبل نعيه، وتألم بشدة لأنه كان محبا للخير والسلام، ولم يتوقع أن يؤدى اختراعه لكل هذا الدمار، ومن ثم قرر التبرع بكل ثروته (توازى 200 مليون دولار حاليا) على أن يخصص عائدها لتمويل منح الجائزة، فى الأدب والسلام والاقتصاد والطب والعلوم، وذهبت أول جائزة إلى مؤسس (منظمة الصليب الأحمر الدولي) عام 1901.
وتأتى فضيحة «الاعتداءات الجنسية» ضربة غير مسبوقة، تهدد مصداقية الأكاديمية العريقة والجائزة وبريقها لدى الجماهير المصدومة فى شرق العالم وغربه. كشفت تفاصيلها حملة «أنا أيضا» المناهضة للتحرش الجنسى -اختارتها « التايم» الأمريكية شخصية العام، نهاية سنة 2017- بدأت الحملة على مواقع التواصل الاجتماعى بإماطة اللثام عن جرائم التحرش الجنسى فى هوليوود، حيث اعترفت بعض الفنانات بوقوعهن ضحايا الاعتداءات الجنسية، وفضحن نجوما ومنتجين سينمائيين بارزين، وحازت «أنا أيضا» اهتماما عالميا، برز خلال حفل الأوسكار، ثم وصل «التسونامى» إلى ردهات جائزة نوبل، خاصة فرع «الآداب».
بعض الدوائر القريبة من الأكاديمية السويدية أوضحت أن الأمر يتعدى «التحرش الجنسي» إلى الصراعات المشتعلة فى جنبات الأكاديمية، وجدت طريقها إلى العلن من خلال اتهامات بالتحرش الجنسى بنحو 28 امرأة، وجهت إلى الفرنسى جان كلود إرنو مدير المحفل الثقافى باستوكهولم، كما اتهم بتسريب أسرار الأكاديمية والأسماء الفائزة قبل إعلانها، المعضلة أن الرجل هو زوج كاتارينا فورستنسون، إحدى أعضاء الأكاديمية، وحينما سعت سارة دانيوس السكرتيرة الدائمة للأكاديمية لفتح تحقيق، أَقيلت من منصبها، وتدحرجت كرة النار باستقالة ثلاثة من أعضاء مجمع الخالدين، احتجاجا على إزاحة دانيوس، وتردد صدى ذلك فى الأوساط الثقافية السويدية، وتقدم عدد كبير من الأساتذة والباحثين بعرائض احتجاج، تعكس الريبة والقلق مما يحدث، ووصل الأمر إلى القضاء، لاسيما أن السكرتيرة الدائمة كانت تتبنى مشروعا طموحا لتحديث الأكاديمية وتطوير بنيتها وآلياتها.
إن جائزتى نوبل للسلام والأدب هما الأكثر إثارة للجدل، نظرا لاختلاف معايير اختيار الفائزين بهما، عن فروع الطب والعلوم مثلا، بالنظر إلى اختلاف طبيعة العلوم الإنسانية عن التطبيقية، وكم اللغط حول ارتباط منح الجائزتين بانحيازات وميول سياسية وثقافية وربما عرقية.. حتى الآن أكثرية الفائزين بنوبل من الغرب، فى كل فروعها، حتى وإن ضلت طريقها لأقطار خارج المركزية الغربية، فى هذا السياق تحوز «نوبل الأدب» قدرا كبيرا من الاتهامات والتشكيك، حول بواعث منحها كل عام، فهى وإن ذهبت إلى قامات عظيمة فى دنيا الإبداع، مثل فولكنروشتاينبك وبيرس وكامو وهيمنجواى وساراماجو وماركيز ونجيب محفوظ، فإن اختياراتها لم تخل من مواقف عاصفة، مثلما رفضها السوفيتى باسترناك عام 1958، والفرنسى سارتر عام 1964، كل لأسبابه، وأثار منحها للمغنى وكاتب الأغانى الأمريكى بوب ديلان عام 2016 موجة استهجان وتساؤلات حول خيارات الهيئة المانحة وبعدها عن المهنية والموضوعية ومدى سلامة المعايير الحاكمة لأطر عملها.
وبرغم ذلك تظل «شوطة التحرش» الأخيرة أكبر معضلة تواجه الجائزة منذ تأسيسها، وسوف تترك تلك الفضيحة الصادمة آثارها على سمعة الأكاديمية وثقة الجمهور بها إلى حد بعيد، ولا شك فى أن ذاك خسارة فادحة للخلايا الإبداعية فى المجتمع الإنسانى، بوصف الجائزة محفزا مهما لتفجير الطاقات الخلاقة للعقول الجبارة فى كل المعارف.. بالإضافة إلى أن الفضيحة أبرزت قدرة مواقع التواصل على تسليط الأضواء وتوجيه الرأى العام المحلى والدولى تجاه قضية ما، أما الأهم فإن الواقعة أظهرت أن أنصاف الآلهة (الخالدين) يخطئون وربما يرتكبون أشنع الجرائم مثل (الفانين) تماما، وتلك هى غواية السلطة ومفارقاتها، مهما تتعدد صورها وتجلياتها.