الأهرام
د. سليمان عبد المنعم
عن سؤال «الوقت» فى القضية الفلسطينية (2-2)
بوسع إسرائيل أن تبتهج وتتغطرس معتقدةً- بزهو نقل بعض الدول سفاراتها إلى القدس- أن التاريخ قد قال كلمته وأغلق كتابه. لكن دهاء التاريخ طالما قلب صفحاته فى وجوه الجميع. والتاريخ لا يفعل ذلك خبط عشواء لكن استجابةً لحقائق تبدو ساكنة ثابتة بينما هى تتفاعل ببطء شديد وتتراكم مع (الوقت). يمكن لإسرائيل بحكم قوتها العسكرية والتكنولوجية أن تواجه بعض هذه التفاعلات وأن تضبط أو تجهض حركتها، لكن هناك تفاعلات أخرى تتم بمعزل عنها بما يستحيل عليها (بالمعنى العلمى للاستحالة) أن تلغيها أو حتى تتوقعها. على رأس هذه الحقائق وجود الشعب الفلسطينى ليس كمجرد حقيقة ديموجرافية عددية ولكن كشعب له جذوره الموغلة وهويته التاريخية التى تجسّدها الشواهد الماثلة ليل نهار المربكة للحسابات الإسرائيلية. فبرغم سياسة حصار وإفقار وإذلال الشعب الفلسطينى لم تستطع إسرائيل أن تلغى وعيه وإرادته. «الوعي» الفلسطينى نوعى بل نخبوي، حين نعلم مثلاً أن معدلات الالتحاق بالتعليم الجامعى لدى الفلسطينيين هى من أعلى المعدلات ليس فقط على الصعيد الإقليمى بل الدولي. فمن بين كل مائة فلسطينى (فى الشريحة العمرية 18-25 سنة) يلتحق 46 بالجامعات. أما ظاهرة «الإرادة» فقد جعلت من الفلسطينيين الشعب الأكثر بسالةً وعناداً وتضحيةً فى العالم كله على مدى السبعين عاماً الأخيرة.

ثالثاً: تعوّل إسرائيل كثيراً على تواطؤ (الحكومات) الغربية معها، وتلك حقيقة، لكنها بنشوة الشعور بالهيمنة تغفل دور (الشعوب) والقوى المجتمعية والمؤسسات الحقوقية والأهلية والأوساط الأكاديمية التى لم تعد تحتمل تجاهل ما يحدث بحق الفلسطينيين. دعوات المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل فى تنام يزعجها كثيراً، وترفض بعض الدول استيراد منتجات زراعية من مستوطناتها، وتنأى دولٌ غربية بنفسها عن السياسة الأمريكية المنحازة لإسرائيل، ويصحّح الوعى الأوروبى نفسه بمرور (الوقت) فأصبح يفصل بين إحساسه بالذنب عما اقترفه من جرائم إبادة بحق اليهود وبين ما ترتكبه سلطة الاحتلال العنصرى بحق الفلسطينيين. ثمة بزوغ لضمير إنسانى متعاطف مع القضية الفلسطينية يتعمّق مع كل جريمة جديدة ترتكبها إسرائيل ويمهد لرأى عام شعبى قد لا تستطيع الحكومات الغربية نفسها تجاهله. كان فى التصويت الأخير للجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن قرار الإدارة الأمريكية نقل مقر سفارتها إلى القدس ما يجب أن يقلق إسرائيل برغم أنها حاولت إظهار بهجة مصطنعة وكاذبة. فباستثناء أربع دول لا يكاد أحد يعرف اسمها أو موقعها على الخريطة تكون خمس دول فقط هى التى صوّتت لمصلحة إسرائيل مقابل 128 دولة فى العالم ما زالت ترى فيها سلطة احتلال مارقة على قواعد الشرعية الدولية. ومثلما كان يتردد فى مقتبل تسعينات القرن الماضى أن نظام الفصل العنصرى فى جنوب إفريقيا يمضى ضد حركة التاريخ فالكلام نفسه يقال اليوم ضد إسرائيل وقد أصبحت نموذج «الأبارتايد» الوحيد المتبقى على سطح الأرض.

تتصوّر دولة الاحتلال الإسرائيلى أن عامل (الوقت) يمضى لمصلحتها بالنظر لحالة الإسلاموفوبيا التى تسود العالم وصورة العرب كرجل العالم البغيض الذى لا يطيقه ولا يعبأ بمظالمه أحد. لكن هذه الصورة الذهنية السلبية عن العرب والمسلمين لا يمكن لإسرائيل المراهنة عليها طوال الوقت، ثم إنها لا تنسحب بالحتم على الحالة الفلسطينية لا سيّما أن السجل الإسرائيلى أصبح مشيناً ومتخماً بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية فى مواجهة انتفاضة الفلسطينيين. هذه الانتفاضة التى دعت يوماً زوجة رئيس البنك المركزى الأوروبى إلى قيامها برفع علم فلسطين على شرفة منزلها فى أمستردام منذ سنوات فى واقعة عميقة المغزى والدلالة.

رابعاً: لعل أعقد سيناريو يمكن بفعل عامل (الوقت) أن يواجه دولة الاحتلال الإسرائيلى مستقبلاً هو فرضية تكرار ما حدث فى عام 2011، وهو الكابوس الذى سبق لإسرائيل أن عاشته لشهور مرت عليها كالدهر حتى كان ما كان فتنفست الصعداء. هذه الفرضية، وبرغم انتفاء أى مؤشرات حالية تنبئ بها، لا تعنى فقط أنه لن يكون بوسع إسرائيل أن تزهو بكونها الديمقراطية الوحيدة فى المنطقة كما تباهت أخيراً بمناسبة قرار مجلس حقوق الإنسان فى جنيف بإرسال لجنة تحقيق دولية فى مجزرة الضفة الغربية، ولكنها ستعنى أيضاً تهاوى حلمها فى قيادة المنطقة العربية أمام دول ناجحة ومتقدمة وقوية.

خامساً: هناك ستة ملايين فلسطينى عاشوا عبر عشرات السنين مع محتليهم برغم محاولة التقوقع داخل المستوطنات وخلف جدران الفصل العنصري. هذا يعنى أنه ليس أكثر من الفلسطينيين معرفةً ودرايةً بدخائل الشخصية الإسرائيلية عقلياً وسلوكياً ونفسياً ومزاجياً، وهذا بذاته سلاح كامن يمكن بفعل عامل (الوقت) والمتغيرات أن يمنحهم ميزة «اعرف عدوك» بكل ما يترتب على هذه الميزة من فوائد. كل العرب الآخرين لا يعرفون عن «الإسرائيلي» سوى ما تتيحه القراءات والمعلومات واللقاءات العابرة، أما التعامل اليومى المباشر فأمر آخر وميزة أخرى لا تتوافر إلا لفلسطينيى الداخل، كما لو أنهم يعيشون تحت جلد «الإسرائيلي» يعرفون نقاط ضعفه وثغراته واختراقاته المخبوءة تحت وهم العدو الذى لا يُقهر. وفى وقت ما، بعد ثلاثين أو خمسين أو مائة عام سيعيد الفلسطينيون قراءة القصيدة/ النبوءة للشاعر الراحل محمود درويش «أيها المارون بين الكلمات العابرة»!

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف