الأهرام
عبد العليم محمد
مايو 1968: المستحيل والممكن
لا تزال أحداث «مايو 1968» فى فرنسا وأصداؤها فى العالم، -ورغم مضى خمسين عاما-، مثيرة للجدل والتفكير وإعادة قراءة هذه الأحداث وتقييم حصادها وما بقى منها، وما تبقى من ميراثها، العديد من المقالات فى صحف كبيرة فرنسية وأمريكية تمحورت موضوعاتها حول هذه الأحداث؛ وكذلك الأفلام الوثائقية التى جمعت بين من بقوا على قيد الحياة، وعاصروها من مختلف المؤسسات والفئات، البوليس وبعض الذين شاركوا فيها من الطلاب والمؤرخين والعمال والفنانين. هذه الأحداث التى اتخذت فرنسا مسرحا لها، جرت فى مناخ دولى متأزم من حرب فيتنام إلى ألمانيا وإيطاليا وتشيكوسلوفاكيا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها العديد من الدول، وقد انفردت فرنسا دونا عن غيرها من هذه الدول بأن الأحداث تجاوزت فئة الطلاب المتمردين لتمتد إلى فئات عديدة من المجتمع الفرنسى خاصة العمال، كما شهدت مصر أيضا مظاهرات الطلاب فى 1968 ضد الأحكام التى رأوها غير ملائمة للمسئولين عن هزيمة 1967. لم تحظ هذه الأحداث بإجماع المفكرين والكتاب حول الحصاد الإيجابى لها، فثمة من استنكرها وأدان المصادر الفلسفية الفوضوية والوجودية والماركسية التى شكلت وعى قادتها وتفكيرهم، وكذلك من نسب إلى هذه الأحداث تعزيز الفردية والليبرالية المتصاعدة، فى حين أن ثمة من المفكرين والمثقفين من يعترف لهذه الأحداث بتخفيض فجوة العدالة الاجتماعية بين الطبقات، وفقدان المساواة، ويقارن هؤلاء فرنسا قبل 1968 وفرنسا، بعدها، على الأقل من زاوية الأجور الدنيا والوسطى، ففى فرنسا، بعد الحرب العالمية الثانية وإن كانت شهدت نمو ملحوظاً، إلا أن فجوة العدالة الاجتماعية بين الطبقات كانت فى ازدياد، حيث كان نصيب ذوى الدخل المرتفع ويمثلون 10% كان يمثل 30% من الدخل الإجمالى عام 1945 وارتفعت هذه النسبة تدريجياً حتى وصلت إلى 37% عام 1967، وواصلت أجور الكوادر أيضا ارتفاعها بينما بقيت الأجور الدنيا تراوح مكانها، أما بعد أحداث 1968، فقد حدث انقطاع فى هذا التواصل، حيث وافقت الحكومة على رفع الحد الأدنى للأجر بنسبة 20% وزادت القوة الشرائية لأصحابه بنسبة كبيرة.

كان المفكر والفيلسوف الفرنسى الراحل جان بول سارتر من أشد المؤيدين والمتعاطفين مع تمرد 1968، وأكد ذلك فى حديث مع ادانييل كون بانديتب أحد أشهر قادة هذا التمرد فى 20 مايو 1968 قائلا إن ما يثير الاهتمام فى حركتكم، أنها قد وضعت الخيال فى السلطة، ورغم أن خيالكم متواضع كشأن كل الناس فإنكم تتميزون عن الآخرين بأنكم أخرجتم شيئا مدهشا ومثيرا والذى أسميه توسيع حقل الممكن«، لم يكتف سارتر بذلك بل حرض على التظاهر فى جامعة السوربون وخطب فى الطلاب، وعندما طالب بعض مستشارى الجنرال ديجول باعتقال سارتر، رد عليهم الجنرال «ديجول» بأنه غير ممكن فسارتر هو فرنسا أى أنه يمثل حساسية فرنسا الثقافية والفكرية والفلسفية والسياسية. جمعت أحداث مايو 1968 فى فرنسا بين فئتين من المجتمع الفرنسى هما الأكثر حضورا فيها، وذلك لم يعنى اقتصار الأحداث على هاتين الفئتين، ألا وهى الطلاب والعمال فى الجامعات وخاصة السوربون ونانتير وفى المصانع والشركات وبقدر ما أعطى اجتماع هاتين الفئتين لهذه الأحداث زخما وقوة وتأثيرا فرنسيا ودوليا، بقدر ما أضعفها وحال دون تحقيق أهدافها على النحو الذى كان مأمولا.

فالعمال فى الشركات والمصانع كانت حركتهم مطلبية تتمثل فى الأجور وساعات العمل والمشاركة فى إدارة الإنتاج وغير ذلك من المطالب الحياتية والعمالية، هذه المطالب التى لخصها أحد العمال من شهود هذه الفترة فى «الخبز والزبد» ولم يكونوا مهتمين بالسياسة والأهداف السياسية للطلاب، والتى لم تكن آنذاك تحظى بالوضوح والشفافية، فى حين أن الطلاب كانوا يرددون فى شعاراتهم ورسوماتهم «كن واقعيا واطلب المستحيل» وأيضا «الحياة بسرعة والآن» وتستحوذ عليهم الرغبة فى الحرية المطلقة للذات الإنسانية وهى مطالب تدخل فى إطار الفلسفة بأكثر مما تدخل فى إطار السياسة الواقعية.

وقد أفضى هذا الاختلاف فى الأهداف والمطالب ورغم شعار وحدة الطلاب والعمال، إلى ما يسميه بعض الكتاب والمؤرخين وجود نسختين من مايو 1968، أو على الأقل نمطين من أحداث هذه الفترة، النسخة الأولى وهى النسخة الطلابية فى الجامعات والتى تمحورت حول مطالب طوباوية ومثالية تتعلق بالوجود الإنسانى، ووجود الإنسان كفرد وحاجته للتعبير عن ذاته بحرية مطلقة خارج القيود التى تفرضها السلطة والمجتمع، أما النسخة الثانية فهى النسخة العمالية التى تتمحور حول المطالب العمالية المتعلقة بالأجور والتمثيل والمشاركة والتعبير عن هذه المطالب فى إطار اتحادات العمال والنقابات وفروعها فى المصانع والشركات، وقد تجلى ذلك واضحا فى أداء الطلاب والعمال على حد سواء، فبينما احتل الطلاب الجامعات وحرصوا على توجيه خطابهم إلى الجمهور حاملا معه شعاراتهم وأهدافهم، حرص العمال عند احتلالهم المصانع على تنظيف الماكينات وتأمينها.

وإذا كان البعض ينسب الفشل لثورة مايو 1968 من الناحية السياسية، حيث أنها لم تقوض الرأسمالية ولم تتمكن من إزاحة ديجول، فإن مايو 1968 قد انطوى على ثورة أخرى ضمنية إن صح التعبير؛ ألا وهى الثورة الثقافية تلك التى أبرزت إلى العلن ضرورة القطع مع الشكلانية والسلطوية فى الحياة اليومية وتحول فى العلاقات الاجتماعية بين الأفراد وبين المرأة والرجل، وهو الميراث الذى لا يزال فاعلا ومؤثرا حتى الآن.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف