المصرى اليوم
د. ميرفت شيخ العرب
«البحوث الطبية».. جريمة ضد «الأمن القومى»
لا أستطيع أن أصف مقدار الحيرة الممزوجة بالغضب والإحباط التى شعرت بها وعاينتها فى أوساط زملائى وأبنائى، عند اطّلاعنا على ذلك القانون العجيب، الذى تم تمريره فى جلستين من جانب البرلمان فى غفلة من الزمن ومن وزير البحث العلمى وأساتذة الطب فى مصر.
ذلك القانون المسمى تنظيم البحوث الطبية الإكلينيكية، المعروف باسم (التجارب السريرية)، الذى يتعامل مع الباحثين من شباب الأطباء وشيوخهم تعامل المشبوهين، بل المُدانين مسبقاً بمخالفة أخلاقيات البحث العلمى، ولن يتسع المجال هنا سوى لسرد بعض الأعاجيب التى حفل بها نص القانون، الذى جاء فى اثنى عشر فصلاً وخمس وثلاثين مادة.

أولاً: إنشاء لجنة مؤسسية لأخلاقيات البحوث الطبية بالجهة البحثية، ويُشترط تسجيلها بوزارة الصحة، وتشكيل مجلس أعلى لأخلاقيات البحوث الطبية بقرار من رئيس مجلس الوزراء، ويكون مقره ديوان وزارة الصحة والسكان، وكلاهما يتألف من مجموعة من الأشخاص ذوى التخصصات الطبية وغير الطبية، منوط بهم مراجعة المخططات البحثية «البروتوكولات» وتطبيق المبادئ الأخلاقية الواجب اتباعها فى هذا الشأن ووضع السياسات العامة لإجراء البحوث الطبية ومتابعة تنفيذها.

فأما لجان الأخلاقيات فهى موجودة فعلاً بكل مؤسسة بحثية ومسجلة دولياً، ولكن لماذا تضم أشخاصاً من غير التخصصات الطبية؟، ومن أين تأتى بهم؟، وعلى أى أساس تختارهم؟، ولماذا يُشترط تسجيلها بوزارة الصحة؟، وكيف يقوم أشخاص من تخصصات غير طبية بمراجعة البروتوكولات البحثية، بل وضع السياسات العامة لإجراء البحوث الطبية ومتابعة تنفيذها؟. هذا ببساطة يعنى نزع مسؤولية الجامعات ومراكز البحوث عن البحث العلمى والرقابة عليه، وتسليمه إلى مجهول، وهذا اعتداء صارخ على الدستور وعلى استقلال الجامعات.

ثانياً: إنشاء مجلس أعلى (آخر) للبحوث الطبية الإكلينيكية، ويصدر بتشكيله أيضاً قرار من رئيس مجلس الوزراء، ويضم ثلاثة ممثلين عن وزارة الصحة والسكان، يختارهم سيادته، وممثلاً عن وزارة الدفاع وممثلاً عن وزارة الداخلية وممثلاً عن جهاز المخابرات العامة وأحد نواب رئيس مجلس الدولة وعدداً من الشخصيات (العامة)، يختارهم أيضاً، وقد تكرم وأضاف ثلاثة من أعضاء هيئة التدريس بالجامعات- ولم يشترط حتى أن يكونوا من كليات الطب- يختارهم وزير التعليم العالى والبحث العلمى، وهذا هو دوره الوحيد، ولا أعرف كيف رضى بهذا التهميش فى قضية يُفترض أن يكون هو المسؤول الأول عنها؟!.

والسؤال هنا: ما الفرق بين المجلس الأعلى لأخلاقيات البحوث الطبية (الأول) والمجلس الأعلى للبحوث الطبية الإكلينيكية (الثانى)؟، وما كل هذه المجالس؟، ولماذا إقحام السيد رئيس الوزراء والزج به فى تشكيل المجلسين؟، وما الهدف من وجود كل هؤلاء الأشخاص من تلك الجهات- مع احترامنا للجميع- فى بروتوكولات أبحاث إكلينيكية هم غير مُلِمِّين بأبسط مفرداتها؟!.

ثالثاً: ينص القانون على أنه تُستحق لتلك الجهات الرقابية مخصصات مالية سوف تحددها اللائحة التنفيذية، بالإضافة إلى مقابل بما لا يُجاوز ثلاثين ألف جنيه لكل بحث ممول، وتحدد فئات هذا المقابل بقرار من وزير الصحة.

والسؤال هو: من أين ستأتى تلك الأموال؟، من جيوب الباحثين الذين أنفق أهلهم كل ما يملكون على تعليمهم ولم يحصلوا على شىء بعد أم من ميزانية وزارة الصحة؟، أليس ذلك باباً خلفياً جديداً للفساد؟!.

رابعاً: يجرم القانون خروج أى عينات بشرية تخص البحوث الطبية من جمهورية مصر العربية، لأى غرض، ويُعتبر ذلك يمس الأمن القومى المصرى، ويطلب استطلاع رأى جهاز المخابرات العامة، وهذا من أعجب ما سمعت، فالعالم كله يُجرى أبحاثاً مشتركة، والعلم مِلْك للبشرية، والأمراض التى تصيب المصريين تصيب غيرهم.

خامساً: بند العقوبات- ومنها السجن المشدد حتى عشر سنوات وغرامة حتى مليون جنيه لمَن يخالف ذلك التعنت، الذى لا يمت بصلة للبحث العلمى ولا أخلاقياته، التى تَوافَق عليها المجتمع الطبى الدولى منذ عام 1963 فى هلسنكى، والتى نعرفها جيداً. الأسوأ والأنكى فيه أنه سوف يتم تطبيق تلك العقوبات بمعرفة موظفين يصدر بتحديدهم قرار من وزير العدل، وسوف تكون لهم صفة مأمورى الضبط القضائى.

هذا القانون، فى رأيى، جريمة ضد البحث العلمى الطبى فى مصر، بل ضد الأمن القومى المصرى، لأنه يعرقل البحث العلمى، ويوسع الفجوة بيننا وبين العالم، ويهدر مالاً عاماً فى تشكيل لجان وصرف مكافآت، ويفتح أبواباً للفساد والرشوة، ويثير الغضب والإحباط لدى شباب الأطباء والباحثين، الذين هم صفوة شباب مصر، والذين يرون زملاءهم ممن تمكنوا من السفر للخارج يعامَلون أرقى معاملة، وكان الأَوْلَى بوطنهم أن يحتضن طموحهم ويشرع ما من شأنه رعايتهم ورفع شأنهم وتيسير إجراء أبحاثهم وحماية ابتكاراتهم والعمل على تطبيقها.. لا أعرف لمَن نلجأ.. ولم يعد أمامنا مَن نطمع فى إنصافه سوى رئيس الجمهورية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف