الأهرام
عبد الجليل الشرنوبى
الصيام عن الانتصار
حين يطول الصيام عن التَحَقُقْ، يستبد الظمأ لإفطار على موائد الانتصار، غير أن هكذا صيام يورث أعراضاً تسرى مرارة من الحلق إلى سائر البدن، ويُخلف انكساراً فى كامل تفاصيل الأداء البشري، حيث تصبح النظرة حدها اللقيمات، والكلمة مدها الاستجداء، والخطوة فى المحل، والأمانى تجثم على صدروها قَنَاعَةٌ زائفة، والحُب تخفت نبضاته تدريجياً، وهكذا يأسر الحياة بتفاصيلها فلك مَنْ تحقق، ويصير على الإنسان إن يَنْصهر فى مشروع المتحققين.

فى حارة من حوارى (زين العابدين)، كان العجوز يجلس على حجر فى ركن يُقابل شاشة تليفزيون المقهى الذى يبث مباراة نهائى أندية أوروبا لكرة القدم، لا يعرف سوى أن مصرياً اسمه (محمد صلاح) يلعب والعالم كله يشجعه، أحضر الرجل علماً مصرياً وضعه على كتفيه، رفض كل دعوة للجلوس على طاولات المقهي، كما لم يقبل أى عطية من رواده، أكد أنه يريد أن يطالع (ابننا صلاح والجماهير الأوروبية تهتف باسمه)، حكى قبل أن تبدأ المباراة عن معلومات مؤكدة لم يُفصح عن أى مصدر لها، حول ملايين فى أوروبا آمنوا بعظمة مصر بسبب حبهم لصلاح، بل إن هناك آلافا دخلوا فى الإسلام بسببه، وقال العجوز بحماسة شديدة وإخلاص شديد (مدربه سمع منه عن فوائد الصيام للاعب الكرة فنصح زملاءه فى الفريق أن يصوموا مثله رغم أنهم مش مسلمين أصلاً)، كان العجوز لا يُخاطب أحداً بعينه، كان سيل المعلومات الأسطورية مجهولة المصدر ينهمر من فمه دون أن يكون هناك من يستمع، لكن حماسا حكيه لم ينقطع إطلاقا حتى بدأت المباراة فقام العجوز واقفاً على الحجر، وبمجرد وقوع عينيه على (صلاح) كانت الدموع تنهمر وكانت يداه ترتفعان للسماء (يارب وفق يا ابني).

حين يطول صيام نسل المتحققين عن التحقق، يُصبح تلمس أثر ما كان من السلف (تسلية صيام) أملاً فى أذان انتصار تغرب معه شمس الانكسار، وحين تتجسد روح السلف فى أحد الخلف تهفو قلوب الصائمين إليه، يتذكرون معه طاولة عزٍ قديم، وصنوفاً من أطباق وطنية الحضور وإنسانية الطلة، وجرعات من دواء تداوى آثار عصور الانسحاق تصنيفاً كعالم ثالث ومصدرا للإرهاب والتطرف والتخلف.

فى الحارة القديمة كان العجوز يسير مخلفاً وراءه كل جمهور المقهى واقفاً فى مقابل الشاشة، تساقط دموعه بغزارة، يضم بقبضته طرفى العلم المصرى المفرود على كتفيه يعتصره، والدموع تسيل من المقل إلى اللحية ثم لا تلبث أن تنفصل عن شعيراتها لتسقط محدثة بقعة تتسع على صدر الرجل، يتمتم (حتى الواد الحيلة طلعنا ما نستاهلهوش، حسبى الله ونعم الوكيل).

فى أزمنة عدم تحقق الأوطان، يكثر المتربصون بها، وتتابع مؤامرات الإضعاف حتى لا تلتقط الأمة المنسحقة أى طرف لأمل أو أى خيط يوصل لدليل طرق أو يربط عقد الهمم المنفرط، ويُسْتَغْرَقْ كل مفوض بالإدارة فى تدبير أولويات الحياة الطبيعية (مأكل ومشرب)، دونما التفات لترميم شروخ طالت الأرواح، وجلاء ران على الهمم.

حين زرت قريتنا (شرنوب) نهاية التسعينيات، فاجأنى التفاف الأهالى بأعداد كبيرة حول الشاشات يتابعون مباراة (سكواش)، قال لى أحدهم (بنشجع مصر فى بطولة العالم للاسكواش)، وبعد استفهام شرح الرجل (إحنا بنشجع أول ما المذيع يقول نقطة للمصري)، لم يكن الأهالى فى ريفنا وقتها يعرفون (اسكواش) كما لم يعرفوا (أحمد برادة) اللاعب وقتها، لكنهم فقط استبد بهم الظمأ إلى تحقق كان وخبا نجمه، وإن كانت فى الجينات تسكن بعض أطلال ألقه،وكلما لمعت استبد الحنين بالمصرى لتحقق قديم وتمنى أن يستعيده.

القضية هنا ليست مرتبطة بالرياضة، أو بكرة القدم، أو حتى بالمصرى المتحقق (محمد صلاح)، وإنما هى قضية أمة تسعى للبقاء على غير إرادة من متربصين كثر، أمة عاينت فجر الحضور مجدا على خريطة الدنيا منذ لاح ضيها، وتعاقبت عليها أحداث ثورتين خلالهما أثبت الشعب بعمومه أن عُرى انتمائه لهذا الوطن لم تفصمها عقود فساد وإفساد ولت، وحين دعوا إلى البذل حضوراً فى الميادين لم يتخلفوا، وعندما دعوا إلى البذل مالاً لم يبخلوا، ورجالها على الثغور يجودون بالروح فداء ولم يجبنوا، هكذا حال يضع فى رقاب كل معنيِّ بالإدارة تبعة التخطيط للبناء على جينات المصرى القديم، ومسئولية استنفار طاقة الحضور فى مشهد الحياة عِزاً لا ذلاً، وسيادة لا تبعية، وأملاً لا قنوطاً، هذه مسئولية (مسحراتي) الوطن الواعى القادر على إيقاظ كل راقد من غفلته وكل يائس من كآبته، إنه مشروع وطنى جامع يؤذن مؤذنه أن حى على وطن منصور وشعب ينتصر.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف