محمد السعيد ادريس
خطر عودة «الدولة المارقة»
مفهوم «الدولة المارقة» تعبير شديد الدبلوماسية فى توصيف ظاهرة «البلطجة» فى إطار العلاقات بين الدول، بما يعنيه هذا التعبير من خروج متعمد على القانون وأحكامه، وقيمه ومبادئه وأخلاقياته، وبما يعنيه أيضاً من اعتماد «استعلائي» على القوة كأداة لتحقيق المصالح والأهداف، وممارسة القهر والتسلط على الدول الأخري. هذه الظاهرة الممقوتة تفرض نفسها عندما يحدث اختلال مفرط فى توازن القوة بين الدول لصالح دولة بعينها، هذا الاختلال فى القوة يمنحها شعوراً بأنها أضحت «فوق القانون» وأن من حقها هي، دون غيرها، أن تفرض القانون الذى تريده أو الذى تراه محققاً لمصالحها على الدول الأخري. ويكشف لنا تاريخ العلاقات الدولية الكثير من نماذج تلك الدول «المارقة» التى كان لجنوحها وتطرفها فى استخدام القوة ضد غيرها من الدول سببا فى تفشى ظاهرة الحروب الكبرى والعالمية التى كانت تعبيراً فى ذاتها عن طغيان الدول القوية على الدول الأخري، كما يكشف لنا التاريخ أيضاً أن العالم كان مهموماً بإيجاد السبل الكفيلة لضبط سلوك الدول والحيلولة دون الطغيان لتفادى مخاطر الحروب، ما أدى إلى توقيع الكثير من المعاهدات والاتفاقيات الدولية التى كان لها الأثر الكبير فى بلورة قواعد القانون الدولي، أى القانون الذى يحكم ويضبط العلاقات بين الدول ويحاصر تفشى ظاهرة «الدولة المارقة»، ويمكننا أن نقول إن قانون عصبة الأمم وميثاق الأمم المتحدة اللذين ظهرا عقب انتهاء الحربين العالميتين الأولى والثانية يعدان من أهم المواثيق الدولية فى إعلاء قيم ومبادئ التعاون الدولي، والاعتماد المتبادل بين الدول، ونبذ استخدام القوة فى العلاقات الدولية، وتقنين هذا الاستخدام وجعله مقيداً بالقانون الدولي، ومنع التدخل فى شئون الدول، وتأسيس أجهزة دولية متخصصة للإشراف على تحقيق هذه الأهداف.
رغم هذا كله لم تختف ظاهرة الدولة المارقة بل ظلت تراود الكثير من الدول الكبري، وإذا كان ظهور النظام الدولى الثنائى القطبية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، الذى فرضه «توازن الرعب النووي» بعد نجاح الاتحاد السوفيتى فى امتلاك القنبلة الذرية، تم نجاحه فى امتلاك الصاروخ العابر القارات القادر على نقل هذه القنبلة إلى حيث تريد القيادة السوفيتية، قد استطاع أن يفرض توازناً فى العلاقات الدولية وأن يحد من تفرد دولة بعينها بالتطلع إلى الهيمنة والسيطرة فإن سقوط هذا النظام عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، أدى إلى ظهور الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عالمية أحادية، ما جعلها تسعى إلى فرض نفسها كقوة إمبراطورية فوق القانون الدولي. ومنذ ذلك الحين والعالم يعيش تحت سطوة وغطرسة أسوأ دولة مارقة عرفها التاريخ، رغم كل ما يمكن الحديث عنه من إرهاصات تقدم العالم نحو نظام لا قطبى أو نظام متعدد الأقطاب بعد عودة روسيا مرة أخرى تحت قيادة فلاديمير بوتين كقوة عالمية كبري، وظهور الصين كقوة اقتصادية عالمية قادرة على المنافسة وكقوة طامحة لامتلاك قدرات عسكرية منافسة. فعقب قيادة الولايات المتحدة لحرب تحرير الكويت من الاحتلال العراقى عام 1991، وهو العام الذى شهد سقوط الاتحاد السوفيتى وانهيار حلف وارسو والكتلة الشيوعية، بدأت الولايات المتحدة تتفرد بقيادة العالم وتتجاوز القانون الدولى وتفرض قوانينها هي، وأصبح الكونجرس الأمريكى بمنزلة برلمان عالمى يشرِّع للعالم، ويتخذ قرارات الحروب على من يتجرأ بالتمرد على «الإمبراطورية الأمريكية»، ما أدى إلى ظهور إستراتيجية «الضربات الاستباقية» كإستراتيجية تعطى للولايات المتحدة الحق فى شن الحروب على أى دولة ترى أنها يمكن أن تكون تهديداً محتملاً للمصالح الأمريكية، وإعطاء واشنطن الحق لنفسها بالتدخل فى الشئون الداخلية للدول للأسباب التى تراها هي، والأدهى كان احتقار واشنطن للأمم المتحدة وتعمد تجاهلها والعمل من خارجها دفاعاً عن مصالح أمريكية تراها مهددة أو حتى محتمل أن تكون مهددة، والسعى إلى فرض الزعامة الأمريكية على العالم كله بما فيه الدول الأوروبية الحليفة. فقد هاجم هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكى الأسبق تعويل إدارة الرئيس الأسبق بيل كلينتون على الأمم المتحدة لاستصدار قرار باستعمال القوة للدفاع عن مصالح أمريكية، أو بوضع قوات أمريكية تحت قيادة الأمم المتحدة للدفاع عن مصالح أمريكية، وطالب بأن تتولى الولايات المتحدة بنفسها الدفاع عن مصالحها.
وجاءت استجابة الإدارة الأمريكية سريعة لهذه الدعوة فى حديث أدلت به مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة (وقت أن كانت رئيسة للوفد الأمريكى بالأمم المتحدة) حيث قالت: «على رغم توافر أسباب قوية لدى واشنطن لقيام هيئة أمم متحدة قوية وفعَّالة، فإنها لن تعهد أبداً بمصيرها لغير الأيدى الأمريكية». وعندما قامت الولايات المتحدة بتوجيه ضربة جوية لمقر المخابرات العراقية رداً على ما سمته بالمحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس الأسبق جورج بوش (الأب) قالت أولبرايت: «نحن لم نطلب موافقة أحد للقيام بتلك الغارة، ولم نطلب مساعدة فيها، وقمنا مستخدمين قواتنا وحقنا فى الدفاع عن النفس. أما التشاور والتنسيق مع الآخرين فيكون، كما ذكرت، أينما يوجد تهديد لسلام دولى يؤثر علينا، ولا يهدد بصورة مباشرة مواطنينا وأراضينا، عندها سيكون من مصلحتنا أن نتحرك بمشاركة آخرين». غرور القوة الأمريكى هذا، وتعمد تجاوز الأمم المتحدة والاستخدام المباشر للقوة الأمريكية تحت غطاء حماية المصالح الأمريكية جاء متوافقاً مع الإطار الذى كانت قد أعدته وزارة الدفاع الأمريكية لفرض الدور الأمريكى المتفرد على دول العالم والذى احتوى خمس مهام أساسية يجب أن تقوم بها الولايات المتحدة لضمان زعامتها المتفردة للعالم ويتضمن: منع اليابان وأوروبا، وقائياً، أن تتحولا إلى قوى عسكرية كبرى قادرة على منافسة أمريكا، ومنع أوروبا من تأسيس تحالف عسكرى مستقل خارج عن الهيمنة الأمريكية، ومنع المنافسين المحتملين حتى من التفكير والطموح بلعب دور إقليمى أو عالمى أكبر، ومنع الانتشار النووي، واستمرار التعامل مع روسيا كمصدر للتهديد النووى الوحيد، ومنعها من أن تصبح مرة ثانية قوة تكنولوجية من الطراز الأول. وفق هذا التوجه كان العدوان والاحتلال الأمريكى على العراق عام 2003، وقبله الحرب على أفغانستان عام 2002، وتمادى الأمريكيون فى أداء دور القوة المارقة فى قيادة النظام العالمي، والآن يواجه العالم اختباراً حاداً فى مدى قدرته على ضبط السلوك الأمريكى المتمادى فى غطرسته تحت قيادة دونالد ترامب، ومدى جدية وجود «تعددية قطبية» حقيقية قادرة على فرض التوازن فى العلاقات الدولية، للإجابة عن السؤال المهم: هل يمكن الحيلولة دون تمكين أمريكا من أن تكون دولة مارقة؟ وكيف؟