الدستور
ماجد حبته
حظر «يوتيوب».. وعلى المكتوب.. ما يفيدش ندم!
يوم واثنان ودخلنا في الرابع وما زال «يوتيوب» يعمل.. وما زال النيل يجري.. وما زال زملائي المواطنون، يلجأون إليه هربًا من إفراط (أو توحش) القنوات التليفزيونية في عرض الإعلانات. مع أن الحكم نهائي ومُلزم وما عادت هناك درجات تقاض يمكن اللجوء إليها لوقف تنفيذه: حكم حظر أو حجب موقع «يوتيوب»، لمدة ٣٠ يومًا، الذي أيدته المحكمة الإدارية العليا، السبت الماضي، الموافق ٢٦ مايو ٢٠١٨.

هذا الحكم صيني، وليس في هذا الوصف أي إساءة أو تجاوز. بل المقصود هو أن حكمًا كهذا لا يمكن تطبيقه إلا في الصين التي منعت شبكات التواصل الاجتماعي وقدمت لمواطنيها بدائل محلية: «كيوكيو» QQ بديلًا عن «فيسبوك».. «ويبو» Weibo مقابل «تويتر».. «ويتشات» WeChat عوضًا عن «فيسبوك ماسينجر».. وعوضتهم بـ«بايدو» Baidu عن محرك البحث «جوجل» وقدمت لهم «يوكو تودو» YouKu TuDou بدلًا من «يوتيوب». وبما أننا لسنا في الصين، أي ليس لدينا البديل، يكون المستهلك هو المتضرر الأكبر من عدم وجود الخدمة أو المنتج (بفتح التاء). ولا يمكن قياس خسائره التي قد لا يحتملها بخسائر كيان ضخم قفزت قيمته السوقية من ١.٦٥ مليار دولار سنة ٢٠٠٦، حين استحوذت عليه «جوجل» إلى ١٦٠ مليار دولار طبقًا لتقدير بنك ستنالي مورجان، الأمر الذي يجعل «يوتيوب» واحدًا من أعلى الكيانات الإعلامية قيمة في العالم.

الحكم عنوان الحقيقة، عنوانها فقط، لكن تحت العنوان توجد حقائق وتفاصيل، تؤكد أن الحكم يخاصم الواقع، ويخالف الهدف الذي خلق الله من أجله المحاكم. إذ إن الخسائر الاقتصادية، الصناعية، التعليمية، والسياحية المترتبة على ذلك الحجب ستكلف شركات مصرية عشرات بل مئات الملايين من الجنيهات. إضافة إلى خسائر آلاف الشباب لوظائفهم المرتبطة بتلك الأنشطة، وكذا تعطيل العديد من التطبيقات والأعمال في المصالح الحكومية والمؤسسات العامة والخاصة والجامعات والمراكز التعليمية. والأكثر من ذلك هو أن هناك إحصائية تشير إلى أن حوالي ٢٠٪ من حجم استخدامات الإنترنت في مصر يتم من خلال موقع «يوتيوب». ولن أحدثك عن خسائر بقية الاستثمارات المرتبطة بالموقع الذي أصبح مجال عمل عديد من أصحاب المحتوى، القنوات التليفزيونية، الصحف، المواقع الإلكترونية، شركات الإعلانات شركات الإنتاج الفني. لن أحدثك عن ذلك كله، تاركًا لك استنتاج سلسلة المتضررين الطويلة التي تبدأ بك أنت، وتمتد وتتشعب حتى تصل إلى طرفها الآخر، إلى الشركة التي ستكون أقل المتضررين.

لو جاز اعتبار الحظر أو الحجب مجالًا للتسابق، أو «شطارة»، تكون باكستان «أشطر»، لأنها سبقتنا بستة أشهر في إصدار الحكم، وبست سنوات في تنفيذه، إذ كانت المحكمة العليا هناك قد قضت بحظر «يوتيوب» في سبتمبر ٢٠١٢، بسبب عرض مقطع الفيديو نفسه الذي صدر بشأنه حكم القضاء الإداري هنا. وقبل أن تعتقد أنني أخطأت في الحساب، أوضح أن الحكم المصري، الذي تم تأييده السبت الماضي، وصار نهائيًا برفض الطعن، صدر عن الدائرة السابعة استثمار في ٩ فبراير ٢٠١٣. وسبقتنا باكستان أيضًا في أنها قامت بتنفيذ الحكم مباشرة، ولم يتم رفع الحظر إلا بعد أكثر من ثلاث سنوات، تحديدًا في ١٩ يناير ٢٠١٦ ووقتها قالت هيئة الاتصالات الباكستانية إن الحظر لم يعد ضروريًا لأن شركة «جوجل»، أتاحت لها (أي للهيئة) وسيلة يمكنها من خلالها التقدم بطلبات لحذف المواد المسيئة مباشرة. بينما قالت متحدثة باسم «يوتيوب» إن ذلك لا يضمن حذف المحتوى تلقائيًا فور تلقي الطلبات، موضحة «لدينا الخطوط العريضة الواضحة التي تحكم مواقعنا، وعندما تنتهك مقاطع الفيديو تلك القواعد، نحذفها. وأشارت إلى أن إدارة «يوتيوب» تقوم بمراجعة شاملة قد تنتهي بحذف أي محتوى لو تلقت طلبًا من أي حكومة يفيد بأنه غير قانوني في تلك الدولة.

الحكم عنوان الحقيقة أيضًا في باكستان، وفي أي مكان وزمان. وكونه عنوانًا فقط يعني أنه ليس الحقيقة الكاملة أو المطلقة. لأن القاضي يحكم طبقًا للوقائع المطروحة أمامه وليس عليه أو أمامه إلا أن يجتهد ويدقق ويحقق قدر ما يستطيع، للوصول إلى النقطة الأقرب من الحقيقة أو إلى عنوان كاشف للوقائع المطروحة. غير أنك قد تندهش لو عرفت أن هناك قرارًا صدر في ٩ يناير ٢٠١٣ بحجب روابط مقطع الفيديو الصادر بشأنه الحكم. وأن الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات، مع أنه غير مختص بمراقبة المحتوى قام بإنشاء صفحة إلكترونية (حماية مصر) دعا فيها المواطنين والجهات إلى تقديم أي روابط إلكترونية تقوم بعرض مقاطع الفيلم المسيء أيا كانت مسماها، لإرسالها إلى الشركات مقدمة خدمات الإنترنت لحجبها، لعدم استطاعة أي جهة بمفردها حصر كل الروابط التي تعرض الفيلم المشار إليه لأن تلك الروابط متغيرة ومتجددة وتبث من دول عديدة.

بعد شهر بالضبط من صدور القرار، صدر الحكم، الذي تم تأييده وصار نهائيًا برفض الطعن عليه. وبعد خمسة أيام، من صدور ذلك الحكم، اجتمعت قيادات وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والجهاز القومي لتنظيم الاتصالات مع خبراء الاتصالات والقانون والاقتصاد والإدارة لبحث آليات تنفيذ الحكم، وأصدرت بيانًا أكدت فيه «أهمية حماية القيم والأخلاق وحماية المعتقدات الدينية والأسرة المصرية من انتشار الغث من التشهير والإساءة والتطاول على الرموز الدينية والأديان السماوية والأنبياء والرسل، وخاصة عندما يتعلق الأمر بشخص الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم». وأكدت أيضًا «ضرورة احترام الأحكام القضائية نزولًا عند حجيتها وإعلاء لشأنها واحترامًا لقدسيتها، وضرورة السعي بكل الطرق والسبل لتنفيذها طالما ذلك ممكنًا».

الدعوى رقم ٦٠٦٩٣ لسنة ٦٦ ق، أقامها أحد المحامين واختصم فيها رئيس مجلس الوزراء ووزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ورئيس الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات، بصفتهم، وأكد أن «أعداء الإسلام والمسلمين قاموا بإنتاج وعرض مقاطع لفيلم يسيء للرسول الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتجسيد شخصيته في مشاهد غير لائقة، وتنافي مقامه الكريم، وذلك بغرض الإساءة للإسلام ولسيدنا محمد وللمسلمين في جميع بقاع الأرض للسخرية والاستهزاء من النبي الكريم وتشويه صورته ولزعزعة عقيدة المسلمين والنيل منها». ومع افتراض أن ما بين التنصيص صحيح، نكون أمام عدد لا حصر له من الأسئلة البديهية أبرزها عن علاقة «يوتيوب» بما فعله أعداء الإسلام والمسلمين، وعن علاقة هذا وذاك بمن اختصمتهم الدعوى.. ثم عن علاقة محكمة القضاء الإداري بذلك كله. مع التسليم بأن «الإسلام والرسول الكريم ليسا في حاجة للمحكمة أو لغيرها للدفاع عن قدسيتهما وسماوية رسالتهما». وما بين التنصيص من حيثيات الحكم، الذي أوضحت فيه المحكمة أن «التشريعات المصرية لم تحدد الحالات التي تستدعي حجب المواقع الإلكترونية؛ إلا أن ذلك لا يخل بحق الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات في حجب بعض المواقع على الشبكة الدولية للإنترنت، حينما يكون هناك مساس بالأمن القومي أو المصالح العليا للدولة».

أعداء الإسلام والمسلمين قاموا بتصوير مقطع فيديو (تم وصفه بأنه فيلم) ورفعوه منتصف ٢٠١٢ على موقع «يوتيوب» وعشرات بل مئات المواقع الإلكترونية، كان «ظريفًا» أن تطالب الدعوى بحجبها كلها، وكان الأظرف هو أن يخص بالذكر موقع «يوتيوب» المسجل (ومقره الرئيسي) في الولايات المتحدة الأمريكية، وله مقرات في عدة دول أجنبية، يتم بثه منها أيضًا، باستخدام تقنيات توزع المحتوى في عدة مواقع، لضمان كفاءة توصيلها، حتى لو توقفت بعض تلك المواقع سواء بفعل الأعطال أو بالحجب. أما عن المختصمين (بفتح التاء) فقد افترض الحكم اختصاصهم بمراقبة المحتوى المعروض على وسائل وشبكات الاتصالات المختلفة، وهذا ما يتنافى فعليًا مع طبيعة دورها جميعًا، ومع طبيعة جهاز تنظيم الاتصالات الذي لا يراقب المحتوى، وإنما يختص فقط بتنظيم وضمان تشغيل الوسائط اللازمة للاتصالات.

بهذا الشكل، ولاستحالة تنفيذ الحكم بمنطوقه، أقام الجهاز، الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات، استشكالًا لوقف التنفيذ. وبالفعل، قضت الدائرة السابعة للاستثمار بمحكمة القضاء الإداري في ٩ مارس ٢٠١٣، بقبول الاستشكال وإعادة عمل موقع «يوتيوب» لحين الفصل في موضوع الدعوى الأصلية. وبصدور حكم الإدارية العليا، السبت، لا أعرف كيف ستثبت قيادات وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والجهاز القومي لتنظيم الاتصالات تأكيدها على «ضرورة احترام الأحكام القضائية نزولًا عند حجيتها، وإعلاء لشأنها واحترامًا لقدسيتها، وضرورة السعي بكل الطرق والسبل لتنفيذها طالما ذلك ممكنًا». وبالمرة نوجه عناية تلك القيادات إلى أن المحكمة أشارت إلى الهدف من الحكم «ليس لمواجهة الظرف الحالي فقط وإنما لردع وتقويم وإنذار تلك المواقع ولكل من تسول له نفسه العبث بالمعتقدات والثوابت الدينية والروحية للشعب المصري بحجة حرية الفكر والتعبير لإثارة البغضاء والكراهية بين أبناء الشعب الواحد وتقسيمه إلى أحزاب وشيع متصارعة غير متحدة على عبادة الإله الواحد».

ولا يبقى غير الإشارة إلى أن شركة «جوجل»، المالكة لموقع يوتيوب، لا علاقة لها بالحكم أو بتنفيذه، لأن الحجب سيتم عبر مشغلي (مزودي) خدمة الإنترنت في مصر. ومع أن الحجب يمكن تنفيذه على المستوى المحلي، إلا أن هناك طرق اختراق عديدة (برامج البروكسي مثلًا) يستطيع المواطن العادي، الصالح، أن يتحايل بها على هذا الحجب وبالتالي إبطال الحكم‏. وهنا تكون التحية واجبة لذلك الطفل المصري، الذي ظهر منذ زمن بعيد، مرتديًا فانلة حمالات مخرومة، وأطلق حكمته الخالدة: «كل واحد يلعب قدام بيته». التحية واجبة ومستحقة لأن ذلك الطفل البائس تفوّق على ذلك الحكيم الذي قال «كل قرد يلزم شجرته»، وتفوق أيضًا على «فولتير» الذي انتظر حتى داهمته الشيخوخة ليقول: فلينصرف كل منا إلى حديقته!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف