الدستور
ماجد حبته
ديمقراطية إيطاليا.. «برلسكونى» أو سيناريو أسوأ!
قلنا إن «شعوب أوروبا تحت الوصاية»، وتحت هذا العنوان توقفنا في مقال سابق، ٢٧ فبراير الماضي، عند قيام المفوضة الأوروبية، الذراع التنفيذية للاتحاد الأوروبي، بمطالبة «الإيطاليين» و«العائلات السياسية الإيطالية المؤيدة لأوروبا» بالتوحد ضد حركة «خمس نجوم»، كي ينقذوا البلاد مما وصفته المفوضية بـ«السيناريو الأسوأ»، بزعم أن تقدم الحركة في الانتخابات العامة، سيحول دون تشكيل حكومة «فاعلة»، وسيتسبب في حدوث شلل في إيطاليا، وقد يجعل أوروبا كلها «تشهد رد فعل حادًا في الأسواق المالية»!.

الانتخابات الإيطالية تقوم على مزيج معقد من القوائم النسبية، تسمح بالحصول على أغلبية المقاعد بمجرد الفوز بـ٤٠٪ من الأصوات، بموجب قانون تم «تفصيله»، استهدف بشكل أساسي منع تقدّم حركة «خمس نجوم»، التي تأسست منذ تسع سنوات، لتكون بديلًا للأحزاب والمنظومة السياسية السائدة، لكن الرياح أتت بما لا تشتهي سفن مَن قاموا بتفصيل القانون أو المفوضية الأوروبية، وفازت الحركة في الانتخابات، التي جرت في ٤ مارس الماضي، بأكثر من ٣٢٪ من الأصوات، أي بأكبر كتلة نيابية لحزب واحد. وعليه، كان طبيعيًا أن تتحقق النبوءة (أو التهديد) وتفشل محاولات تشكيل الحكومة رقم ٦٧ بعد الحرب العالمية الثانية، وقد يستمر الفشل حتى لو جرت انتخابات جديدة خلال أشهر!.

بعد مفاوضات استمرت لأسابيع لمحاولة تشكيل ائتلاف حكومي، اتفقت حركة «خمس نجوم» مع حزب «الرابطة»، الائتلاف الشعبوي الجديد، على تكليف جوزيبي كونتي، المحامي والسياسي غير المتمرس، بتشكيل الحكومة. ووافق رئيسا الحركة والحزب، لويجي دي مايو وماثيو سالفيني، على القيام بتسويات بشأن النقاط الرئيسية في مشروعهما السياسي، وتوصلا إلى نقاط التقاء حول قضايا مهمة وحول مضمون البرنامج الحكومي الذي يقوم على اثنين من أبرز المحظورات في التوجيهات الأوروبية لتحقيق الاستقرار المالي وترسيخ أسس النمو الاقتصادي: زيادة الإنفاق العام، وخفض الضرائب، إضافة إلى طرد أكثر من نصف مليون مهاجر غير شرعي. كما تراجعت حركة «خمس نجوم» عن إصرارها على تخلي حزب «الرابطة»، الذي نال ١٧٪ من الأصوات، عن تحالفه مع «برلسكوني» وحزبه. وسلفيو برلسكوني هو رئيس الوزراء الأسبق، أو المزمن، الذي تولى رئاسة الوزراء ثلاث مرات، وفي طريقه إلى الرابعة، وسنعود إليه بعد قليل.

بالفعل، قدم «كونتي» تشكيلًا مقترحًا، غير أن الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا (٧٦ عامًا) اعترض على وزير الاقتصاد المقترح، باولو سافونا، لمجرد إدلائه بتصريحات سابقة هاجم فيها الـ«يورو» وطالب بخطة لخروج إيطاليا من العملة الأوروبية الموحدة «إذا اقتضى الأمر». وكانت وجهة نظر الرئيس ماتاريلا هي أن تسمية وزير للاقتصاد يشكّك علنًا في الاتحاد الأوروبي يخالف تعهد الحزبين بـ«تغيير أوروبا إلى الأفضل من وجهة نظر إيطالية». باعتذار «كونتي» عن عدم تشكيل الحكومة، قام الرئيس «ماتاريلا»، الإثنين، بتكليف كارلو كوتاريلي، بتشكيل حكومة انتقالية مهمتها التحضير للانتخابات الجديدة. وبعد لقاء بين الاثنين، أعلن الأخير أن دوره يتلخص في طرح ميزانية ٢٠١٩ على البرلمان للتصويت عليها، وبعد ذلك «سيتم حل البرلمان وإجراء انتخابات مطلع ٢٠١٩»، موضحًا أنه إذا لم يحصل على ثقة البرلمان، فإن الانتخابات ستكون «بعد أغسطس». والإشارة هنا مهمة إلى أن كوتاريلي (٦٤ عامًا)، رجل اقتصاد مؤيد للتقشف، عمل في صندوق النقد الدولي بين ٢٠٠٨ و٢٠١٣. وغالبًا، لن يحصل على ثقة البرلمان، أو على الأقل لن يكون ذلك سهلًا!.

قائدا الائتلاف الشعبوي الجديد، أو رئيسا حزب «الرابطة» وحركة «خمس نجوم»، نددا بما فعله الرئيس، واتفقا على أنه يرجع إلى تدخل ألمانيا ووكالات التصنيف الائتماني وجماعات الضغط المالي. وهو الاتهام الذي تأكد، بعد إشادة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بـ«شجاعة» الرئيس الإيطالي وبـ«حسه العالي بالمسئولية». وزاد على ذلك فأعلن دعمه له ووصفه بأنه «لديه مهمة أساسية عليه القيام بها، وهي استقرار المؤسسات والديمقراطية في بلده، وهذا ما يفعله بشجاعة كبيرة وحس عال بالمسئولية». وفي المقابل قال «دي مايو» أمام تجمع لأنصاره في روما: «رفضوا حكومة تتمتع بالأغلبية، واختاروا أخرى لن تنالها»، ولاحقًا طالب «دي مايو» بعزل الرئيس سيرجيو ماتاريلا، في أقرب وقت، وبأن تكون الكلمة للإيطاليين: «عزل ماتاريلا أولًا، وبعدها نجري انتخابات». أما «سالفيني»، فأكد أن إيطاليا ليست «تحت الاحتلال»، وقال «لن نقبل بأن تقول لنا ألمانيا ما علينا فعله». وهدد، يوم الإثنين، بفك تحالف حزبه مع حزب سيلفيو برلسكوني «إلى الأمام إيطاليا» شريكه الانتخابي، لو منح الثقة للحكومة الانتقالية.

لا أعتقد أن «سالفيني» جاد في تهديده، إذ إن التحالف بين الحزبين، قديم جدا ولم تهزه أحداث أكثر. وقد أتاح ذلك التحالف لحزب «الرابطة» أن يتولّى دائمًا حقائب وزارية مهمة في حكومات برلسكوني الثلاث، وصلت إلى أربع حقائب سنة ٢٠٠٨ أي في الثالثة. وربما لا تكون جدية التهديد محل اختبار، لأن الفارق بين منح الثقة للحكومة الانتقالية أو حجبها عنها، بالنسبة لـ«برلسكوني»، هو مجرد وقت، وأعتقد أنه كان مهتمًا فقط بفشل تشكيل الحكومة الائتلافية. وقد بدا ذلك واضحًا في البيان الذي أشاد فيه بجهود الرئيس ماتاريلا في «الحفاظ على عائلات البلاد وشركاتها».

ما قد يثير دهشتك هو أن «برلسكوني» لم يتوقف عن لعب أدوار سياسية، مع أنه كان ممنوعًا من تولّي مناصب عامة قبل ٢٠١٩، بموجب حكم قضائي، صدر سنة ٢٠١٣، ومع أنه اضطر إلى التنّحي عن الحكم في ٢٠١١، بعد ملاحقات قضائية متتالية، وبعد فضيحة جنسية، وبعد أن بلغت ديون البلاد ١٫٩ تريليون يورو، أي ما يمثل ١٢٠٪ من ناتجها القومي الإجمالي. وأتمنى أن تكون انتبهت إلى «كان ممنوعًا»، وسببها أن معجزة حدثت وقضت محكمة في ميلانو، ١٢ مايو الجاري، بـ«إعادة الأهلية» إلى «برلسكوني»، وإلغاء منعه من تولي مناصب عامة أو الترشح لها، قبل عام من الموعد المحدد أو المُفترض، بسبب ما زعمت المحكمة أنه «حسن السير والسلوك». والأرجح هو أن كون «برلسكوني» صار حرًا في أن يترشح للانتخابات، جعله أقل تقبلًا لحكومة ائتلاف حزب الرابطة وحركة خمس نجوم. لأن الفشل أو الانتخابات الجديدة، قد يقودان إلى عودته رئيسًا للوزراء للمرة الرابعة.

مدعومًا من الاتحاد الأوروبي، قد يتم تسويقه على أنه الوحيد القادر على انتشال الاقتصاد الإيطالي من فترة الركود استمرت عشرين سنة. إضافة إلى قيام وكالات التصنيف الائتماني إلى خفض درجة إيطاليا التي هي أساسًا على بعد خطوتين من القاع، مع تحذيرات من كوارث اقتصادية قد تتسبب فيها أي «حكومة شعبوية». صحيح أن الانتخابات إن أعيدت لن يحقق فيها «إلى الأمام إيطاليا» نسبة الـ٤٠٪ التي تسمح بالحصول على أغلبية المقاعد، طبقًا للقانون الذي تم تفصيله، إلا أن تحالفه مع حزب «الرابطة»، حليفه القديم، قد يضمن له ذلك. وإلا فإن ما حدث هذه المرة سوف يتكرر، لأن الاتحاد الأوروبي لن يقبل أي حكومة لا تستجيب لإملاءات، كما لن يسمح بوأد النظام السياسي الذي حكم إيطاليا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

الديمقراطية لم يعد معناها، إذن، أن يختار الشعب، بل ما يختاره الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة، الأسواق المالية، أو «عائلات البلاد وشركاتها»، حتى لو وقع الاختيار على «برلسكوني»، الذي سيبلغ الثامنة والثمانين في ٢٩ سبتمبر القادم، وكان الفساد هو العنوان الأبرز للحكومات الثلاث التي تولى رئاستها، وغالبًا سيكون هو عنوان الرابعة!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف