الأهرام
محمد ابو الفضل
الضمانات المطلوبة لإجراء الانتخابات الليبية
الحماس الذى تبديه جهات إقليمية ودولية لإجراء الانتخابات فى ليبيا قبل نهاية العام، يبدو فى ظاهره حالة إيجابية، ترمى إلى إنهاء فترة قاتمة من التوترات والصراعات الدامية، وفى جوهره حالة سلبية يمكن أن تضاعف المشكلات.

لم تكن هذه الرغبة موجودة بالدرجة ذاتها قبل بضعة أشهر. الاهتمام المفاجيء الذى تظهره بعض القوى بالانتخابات وحرق مراحل، تعديل اتفاق الصخيرات، واقرار الدستور، وعقد مؤتمر جامع للوفاق الوطني، دليل ضعف وليس قوة.

العجز يؤدى إلى الهروب والمراوغة فى الوفاء بالاستحقاقات اللازمة. الشجاعة تقتضى الوفاء بخطة الأمم المتحدة على الأرض. تنفيذ ما جرى الاتفاق عليه فى المؤتمرات التى عقدت فى الدول المعنية بالتسوية فى ليبيا.

الدفع باتجاه الانتخابات فى أى بلد يستلزم تهيئة البيئة السياسية والأمنية. جعل الأجواء مواتية لتقبل ما يترتب عنها. التجهيز جيدا لعملية مضنية كى تكون النتائج معبرة عن الواقع بكل تشابكاته. منع من يمتلك زمام القوة من فرض النفوذ عنوة. وقف الخلل الحاصل فى التوازنات جراء دعم دول لهذا الجناح بالسلاح، وفرض حصار على ذاك.

فى ليبيا وضع نادر من الخلل الجسيم. ميلشيات تتقاتل لتحقيق المكاسب. جيش يحاول لملمة المؤسسة العسكرية التى تم تخريبها عمدا. قوى سياسية تجرى وراء أهدافها الآنية. قبائل لا تزال تقبض على زمام أمور كثيرة. أقاليم تحلم بالانفصال لعدم قدرتها على الاندماج. دول خارجية تتدخل وتنتهك سيادة البلاد بذريعة الحفاظ على مصالحها.

فوق كل ذلك هناك حكومة لا تحظى بإجماع وطني. حكومة لا تسيطر على مؤسسات الدولة التى اختطفتها الميلشيات المتطرفة، وتضطر الحكومة للتنسيق والتعاون معها للإيحاء بأنها صاحبة قرار وقوة ونفوذ. الجيش الوطنى الليبى الذى يوشك أن يسيطر على درنة ويستعد لدخول طرابلس، يريدون الشوشرة عليه وارباكه بورقة إجراء انتخابات معلبة.

لم تقدم حتى الآن الدوائر الداعمة لها إجابات شافية عن الهيئة التى تستطيع الإشراف عليها واتمامها بصورة إيجابية. الخطوات التى تضمن اتمامها بطريقة سليمة تكاد تكون منعدمة. الجهة أو الجهات المسئولة عن تنفيذ ما ستسفر عنه غير معلومة. مصير الجماعات التى تحمل الأسلحة فى وضح النهار لا يزال مجهولا.

أسئلة كبيرة، تتعمد الدول التى تدفع بالاتجاه نحو الانتخابات بلا ضمانات، غض الطرف عنها، لأن الوقوف عندها بإمعان يضعها فى موقف حرج. يجبرها على الوضوح وعدم الخداع. بذل جهود محددة فى سبيل التسوية السياسية، وليس القفز على جهود دول أخرى تعلم التفاصيل والخبايا الدقيقة للأزمة.

المؤتمر الذى عقد فى باريس وحضره ممثلون من 19 دولة، الثلاثاء الماضي، سعت فرنسا من خلاله ليكون نواة لتدشين دور جديد يتخطى أدوار دول مهمة أسهمت فى تقريب المسافات بين القوى الليبية وتهيئة الأجواء السليمة للوصول إلى مربع الانتخابات، بما لا يعيد تكرار الأخطاء التى وقعت فى المرتين الماضيتين.

المبادرة الفرنسية، استعجلت جنى الثمار السياسية والاقتصادية، وبدا من أطلقوها يريدون التكفير عن جريمة ارتكبت عام 2011، بعد سقوط نظام العقيد معمر القذافي، أو طى صفحة قاتمة، حتى لو كانت الصفحات التالية سوف تصبح أشد سوادا. المهم يبدو التعجيل بالانتخابات كأنه يقود إلى الإيحاء بالاستقرار.

هذه نظرة غير العارفين بطبيعة الأوضاع فى ليبيا. من يريدون الترويج أنهم مع الأمن فى هذا العالم، ليداروا حماقات سابقة وحالية، ووضع غطاء أخلاقى فوق ما ارتكبوه من تجاوزات وأخطاء بالجملة فى ليبيا وغيرها.

الأزمة فى ليبيا، يصعب مقارنتها بأزمات أخرى فى المنطقة. هى من النوع السهل الممتنع. يمكن التوصل إلى تسوية سياسية لها من خلال معرفة مفاصل الحل والعقد. عبر الاقتراب من التروس الرئيسية والفرعية فيها. يمكن لمن يعتبرهم البعض ترسا هامشيا يؤثر على النتيجة النهائية.

الخصوصية التى تتمتع بها ليبيا عملة نادرة. يحتاج من يتعاملون مع الأزمة مقاربات واقعية وليس تقديرات انطباعية يتم عليها بناء قرارات مصيرية، مثل إجراء الانتخابات.

الحديث الفرنسى سبقه إعلان غسان سلامة المبعوث الأممى إلى ليبيا (فرنسى الجنسية)، بخطوة أمام مجلس الأمن الدولى حول ضرورة إجراء الانتخابات قبل نهاية العام الجاري، بصرف النظر عن تطبيق الخطة الدولية كاملة.

تحول الانتخابات إلى هدف فى حد ذاته، مخاطرة كبيرة ينجم عنها تخريب ما تم من إجراءات خلال الفترة الماضية. تثبيت الواقع الجديد سيكون مرهونا بقوة الميلشيات التى ترى فى الانتخابات خصما من مكاسبها التى تحققت فى ظل غياب مؤسسات الدولة. لذلك من مصلحتها أن تتم بدون استعدادات لضمان فشلها أو وضع العراقيل فى طريق اتمامها.

فى الحالتين الحصيلة واحدة. اعادة إنتاج المؤتمر الوطنى الذى سيطر على المشهد الليبى حتى 2014، وما صاحبه من نفوذ للإخوان والميلشيات والجماعة الليبية المقاتلة والمتطرفين بمشاربهم المختلفة، وهو ما يجلب اخفاقا فرنسيا جديدا.

المشكلة أن باريس تعتبر التأييد الظاهر من قبل دول عدة اقتناعا بمبادرتها، بينما فى الحقيقة جزء منه رغبة فى عدم الغياب، واثبات حضور يجهض محاولات قوى تريد الاستئثار بالقرار. الأمر الذى يفسر اجتماع قوى متناقضة ومتصارعة فى باريس أخيرا. تخطيء فرنسا أو غيرها، إذا اعتقدت أن تجميع الأطياف المتباينة فى قاعة واحدة يمثل دعما لتوجهاتها. فكم من مبادرات طرحت؟ وكم من اجتماعات عقدت؟ وكم من اتفاقيات وقعت؟ وكم من إعلانات مباديء حظيت باهتمام؟ ولم تساو نتائجها ما تم الترويج له. سقف التطلعات المرتفع عندما يصطدم بالواقع يكون كفيلا بتسرب الإحباط لأصحابه.

الخوف يكمن الآن فى أن تعيد تحركات بعض القوى الأزمة إلى نقطة الصفر. تتداخل الأوراق وتتشابك الحسابات وتفترق السبل التى تم تجميعها مؤخرا، وتجد الميلشيات فرصتها فى زيادة نفوذها وتوسيع أماكن تموضعها.

الخطورة أن بعض القوى المؤثرة فى ليبيا، إذا لم تستطع تحقيق أهدافها بإمكانها منع الآخرين من تحقيق أهدافهم. حل جزء كبير من الأزمة يأتى من جانب الجهات العارفة بخريطة ليبيا المعقدة. لذلك توفير الضمانات هو المدخل السليم لإجراء الانتخابات، قبل أن يُفتح الباب لاستدعاء خيار التقسيم.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف