المصريون
د. عبد الآخر حماد
النزعة السلفية عند الجبرتي
عبد الرحمن بن حسن الجبرتي ( 1167- 1240هــ ) ( 1754- 1825م) ، مؤرخ مصري شهير عاصر قدوم الحملة الفرنسية على مصر ،ثم عاصر تولي محمد علي الحكم في مصر وما تلا ذلك من أحداث ، وقد أرخ لتلك الفترة وما قبلها في تاريخه المسمى ( عجائب الآثار في التراجم والأخبار ).
وقد لاحظت في كتابات نفر من دعاة العلمانية في بلادنا أنهم يصنفونه على أنه من رواد ما يسمونه بالفكر التنويري ، حتى إن لويس عوض في كتابه : ( تاريخ الفكر المصري الحديث ) قد زعم أن الجبرتي أحد واضعي الفكر المصري الحديث .
ولكن الحقيقة أن من يتتبع تعليقات الجبرتي على الحوادث التي يرويها سيرى أن الجبرتي كان كغيره من علماء عصره ينطلق في آرائه ومواقفه من منطلق ديني بحت ،أساسه الرجوع إلى أحكام الشريعة الغراء ،بل إننا نلاحظ في تعليقاته نزعة سلفية واضحة ،وإنكاراً شديداً للبدع والمحدثات المخالفة لمنهج السلف رضوان الله عليهم ،ودليلنا على ذلك نصوص عدة متناثرة في تاريخه نجتزأ منها ما يلي :
1- أنه يقرر في مقدمة كتابه وجوب الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله في الحكم بين الناس حيث يقول: ( فالواجب على الملك وعلى ولاة الأمور أن لا يقطع في باب العدل إلا بالكتاب والسنة ؛ لأنه يتصرف في ملك الله وعباد الله بشريعة نبيه ورسوله نيابة عن تلك الحضرة ومستخلفاً عن ذلك الجناب المقدس ،ولا يأمن من سطوات ربه وقهره فيما يخالف أمره فينبغي أن يحترز عن الجور والمخالفة والظلم والجهل..... ) إلخ كلامه رحمه الله .
2- ينكر الجبرتي من خلال تعليقه على بعض الأحداث ما انطوت عليه الصوفية من البدع المخالفة للاعتقاد السلفي السليم ، وذلك في مواطن عدة منها ما ذكره في حوادث سنة 1170هـ في ترجمته لأحد المشايخ وهو الشيخ عبد الوهاب بن عبد السلام فيذكر أنه عقب وفاته اجتمع أولاده ومريدوه وبنوا له قبراً وعملوا له مقصورة ومقاما وصيروه مزاراً عظيماً يقصد للزيارة ويختلط به الرجال بالنساء ويقول : ( ثم إنهم ابتدعوا له موسماً وعيداً في كل سنة يدعون إليه الناس من البلاد القبلية والبحرية فينصبون خياما كثيرة .. ) إلى أن يقول : ( .. فيطأون القبور ويوقدون عليها النيران ويصبون عليها القاذورات ،ويبولون ويتغوطون ويزنون ويلوطون ويلعبون ويرقصون ،ويضربون الطبول والزمور ليلا ونهارا .... ) .
وفي حوادث شعبان 1213ه يتحدث عن نشأة المولد الحسيني وكيف أن الذي ابتدعه رجل أصيب بمرض فنذر على نفسه هذا المولد إن شفاه الله ، فحصلت له بعض إفاقة فابتدأ به ، وقد ذكر الجبرتي أنواعاً من البدع التي كانوا يأتونها في أثناء الاحتفال بذلك المولد ثم قال : ( هذا مع ما ينضم إلى ذلك من جمع العوام وتحلقهم بالمسجد للحديث والهذيان وكثرة اللغط والحكايات والأضاحيك والتلفت إلى حسان الغلمان ... ورمى قشور اللب والمكسرات والمأكولات في المسجد ... فيصير المسجد بما اجتمع فيه من هذه القاذورات والعفوش ملتحقا بالأسواق الممتهنة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ..... ويتكلمون بكلام محرف يظنون أنه ذكر وتوسلات يثابون عليها ... وغالبهم السوقة وأهل الحرف السافلة ومن لا يملك قوت ليلته فتجد أحدهم يجتهد بقوة سعيه ويبيع متاعه أو يستدين الجملة من الدراهم ،ويصرفها في وقود القناديل وأجرة الطبالة والزمارة ....ثم يقطع ليلته تلك سهراناً ويصبح دايخاً كسلاناً ،ويظن أنه بات يتعبد ويذكر ويتهجد ،واستمر هذا المولد أكثر من عشر سنين ولم يزدد الناذر لذلك إلا مرضاً ومقتاً ... ).
3-ينبه الجبرتي في تاريخه إلى أن الفرنسيين قد شجعوا الناس على إقامة الموالد لما رأوا في ذلك من الخروج عن الشريعة وصرف الناس عن جهادهم ومقاومتهم ،ومن ذلك ما ذكره في حوادث عام 1214هـ حيث ذكر أنه في أوائل شهر ربيع الثاني من ذلك العام ابتدأ الفرنسيون في عمل مولد الحسين ،وأنهم قهروا الناس على المشاركة في الاحتفال به ،وكرروا المناداة بفتح الحوانيت والسهر وإيقاد القناديل عشر ليال متوالية . كما يقول في حوادث ربيع الأول سنة 1213هـ : ( وفيه سأل صارى عسكر عن المولد النبوي ولماذا لم يعملوه كعادتهم ؟ فاعتذر الشيخ البكري بتعطيل الأمور وتوقف الأحوال ،فلم يقبل ،وقال: لا بد من ذلك ، وأعطى له ثلثمائة ريال فرانسه معاونة ،وأمر بتعلق تعاليق وأحبال وقناديل ،واجتمع الفرنساوية يوم المولد ولعبوا ميادينهم وضربوا طبولهم ودبادبهم .....) .
كما ذكر الجبرتي في حوادث ربيع الآخر 1214ه أنه كان من جملة الموالد التي كانت تقام بالقاهرة قبل مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر مولد لواحد من البُله يدعى على البكري ،وأنه لما قدم الفرنسيون تشاغل عنه الناس وأهمل شأنه ،فلما استقر الأمر للفرنسيين أعادوا الاحتفال بمولد ذلك الولي المزعوم ،وأمروا الناس بإيقاد قناديل بالأزقة ،ويعلق الجبرتي على ذلك بأن الفرنساوية إنما أمروا بإعادة تلك الموالد لما رأوا فيها ( من الخروج عن الشرائع ،واجتماع النساء ،واتباع الشهوات والتلاهي وفعل المحرمات ).
4- ومن ذلك ما يلمسه قارئ الجبرتي من تعاطفه مع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بل وتأييده لمعتقده وآرائه ،ومن ذلك أنه يذكر في حوادث سنة 1218ه أن الناس قد لغطوا في خبر الوهابي واختلفوا فيه ، ثم يذكر أن الوهابي أرسل الى شيخ الركب المغربي كتابًا ومعه أوراق تتضمن دعوته وعقيدته ، وقد نشر الجبرتي نص ذلك الكتاب كاملاً ،وفيه بيان ما تقوم عليه تلك الدعوة من الرجوع لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإنكار مظاهر الشرك من التوجه الى الموتى وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات ،والتقرب إليهم بالنذور وذبح القربان ،وأن ما يحدث من تعظيم قبور الأولياء وبناء القباب عليها وإسراجها والصلاة عندها واتخاذها أعيادًا كل ذلك من حوادث الأمور التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم أمته وحذر منها ،وأنه يجب هدم القباب المبنية على القبور لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم قال الجبرتي تعليقاً على هذا الكتاب : ( أقول : إن كان كذلك ، فهذا ما ندين الله به نحن أيضاً ، وهو خلاصة لباب التوحيد ، وما علينا من المارقين والمتعصبين ، وقد بسط الكلام في ذلك ابن القيم في كتابه إغاثة اللهفان ،والحافظ المقريزي في تجريد التوحيد .....) .
5- وفي سياق تأريخه للحروب التي شنها محمد علي باشا على آل سعود والدعوة الوهابية نجد تعاطفاً واضحاً من الجبرتي مع الدعوة النجدية ، وإنكاراً شديداً لما كان عليه حال قادة محمد علي وجنوده من الفسق والبعد عن الدين ففي حوادث شهر رمضان سنة 1229ه يذكر عن بعض أولئك الجند أنهم تجمعوا خارج باب الفتوح استعداداً للسفر إلى الحجاز ، وأنهم كانوا : ( يأكلون ويشربون جهاراً في نهار رمضان ... ويجلسون على المساطب وبأيديهم الأقصاب والشبكات التي يشربون فيها الدخان من غير احتشام ولا حياء ..... وأشنع من ذلك أنه اجتمع بناحية عرضيهم وخيامهم الجم الكثير من النساء الخواطي والبغايا .... وانضم إليهن بياع البوظة والعرقي والحشاشون والغوازي والرقاصون وأمثال ذلك .... فكانوا جمعاً عظيما يأكلون الحشيش ويشربون المكسرات ويزنون ويلوطون ويشربون الجوزة ويلعبون القمار جهاراً في نهار رمضان ولياليه مختلطين مع العساكر ، كأنما سقط عن الجميع التكاليف وخلصوا من الحساب ).
وفي حوادث المحرم 1227ه يتحدث عن عودة عساكر محمد علي من بلاد الحجاز بعد هزيمتهم وهم في أسوأ حال من الجوع وكآبة المنظر ،وينقل عن بعض أكابر القادة أنه قال له : ( أين لنا بالنصر، وأكثر عساكرنا على غير الملة، وفيهم من لا يتدين بدين، ولا ينتحل مذهباً، وصحبتنا صناديق المسكرات، ولا يسمع في عرضينا أذان ولا تقام به فريضة، ولا يخطر في بالهم، ولا خاطرهم شعائر الدين، والقوم –أي الوهابيون - إذا دخل الوقت أذن المؤذنون، وينتظمون صفوفاً خلف إمام واحد، بخشوع وخضوع ،وإذا حان وقت الصلاة والحرب قائمة أذن المؤذن، وصلوا صلاة الخوف ... وعسكرنا يتعجبون من ذلك لأنهم لم يسمعوا به فضلا عن رؤيته ) . هذا والله تعالى أعلى وأعلم.


عبد الآخر حماد
عضو رابطة علماء المسلمين
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف