المصرى اليوم
د/ شوقى علام
فى رحاب غزوة بدر الكبرى (1)
لا أحد ينكر أن النصر فى أى ميدان من ميادين الحياة لا بد له من مقومات تؤدى إليه، فضلاً عن توفيق الله تعالى أولاً وآخراً، والنصر فى الحروب داخل فى ذلك بلا ريب، وهذا ما كان فى غزوة بدر الكبرى، ففى السابع عشر من شهر رمضان فى السنة الثانية للهجرة وفى ذلك المكان المسمى «بدر»، كانت هذه الغزوة الفارقة فى حياة الإسلام، فقد انتصر المسلمون فيها مع قلة عددهم وعتادهم أمام قوة، وفق مقاييس عصرها، لا ينتصر عليها إلا مَن كان مكافئاً لها فى العدد والمدد والعتاد، ويقص القرآن الكريم علينا من تنزُّل جنود الله على المسلمين تأييداً لهم وتثبيتاً لقلوبهم، ومن ذلك قول الله تعالى: «إِذ يُغَشّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً منهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيكُم منَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذهِبَ عَنكُم رِجزَ الشَّيطٰنِ وَلِيَربِطَ عَلىٰ قُلوبِكُم وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقدامَ»، وقبل هذه الآية يقول الله تعالى: «إِذ تَستَغيثونَ رَبَّكُم فَاستَجابَ لَكُم أَنّى مُمِدُّكُم بِأَلفٍ مِنَ المَلٰئِكَةِ مُردِفينَ»، وبعدها قال عز وجل: «إِذ يوحى رَبُّكَ إِلَى المَلٰئِكَةِ أَنّى مَعَكُم فَثَبِّتُوا الَّذينَ ءامَنوا سَأُلقى فى قُلوبِ الَّذينَ كَفَرُوا الرُّعبَ..».
نزلت الملائكة ونزل الماء من السماء وأُلقى الرعب فى قلوب العدو، فثبتت قلوب المؤمنين وكان النصر فى المعركة لهم، حقيقة غير خاضعة لمقاييس البشر حدثت فى وقت عصيب كان النبى الكريم، صلى الله عليه وسلم، يرفع يديه إلى السماء حتى بدا إبطه الشريف تذللاً لله القدير، استغاث واستغاث الناس معه، فكان النصر والتأييد والتثبيت حليفهم.

ومع هذه الحقائق الواقعة، التى هى كشف لجزء من حقائق الغيب، جاء التوجيه النبوى الشريف فى هذه الغزوة واضعاً مبدأً مهماً من مبادئ الحكم وفصلاً من فصول بيان تصرفات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مما يعطى مساحة واسعة من التصرف الإنسانى البشرى، الذى يكرس فكرة الدولة التى يلتحم فيها القائد مع جنوده فى ميدان الحياة بكمالها، تلك الدولة التى تأخذ بكل أسباب المحافظة على وجودها وكذا أسباب العمران المتاحة، مع ارتكازها على مجموعة من القيم يقرها التشريع من مجموع نصوصه، منطلقة إلى آفاق العلم الرحب فى هذا الإطار الأخلاقى، دون إسباغ عصمة لقائد يقود بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهذا ما قصده المعصوم، صلى الله عليه وسلم، من ترسيخ مبدأ الشورى فى هذه الغزوة فى أوضح صورة، عندما استشار الصحابة، وهو المُوحَى إليه من ربه، فى أمر المعركة ونظر إلى المهاجرين والأنصار يستشيرهم، فبعد أن قال المهاجرون قولهم لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، قام سعد بن معاذ وقال: والله كأنك تريدنا يا رسول الله، قال: أجل، قال: قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامضِ يا رسول الله لما أردت، فوالذى بعثك بالحق إن استعرضت بِنَا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، إنَّا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء، فسِر يا رسول الله على بركة الله، فسُر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من قول سعد، وقال: سيروا على بركة الله وأبشروا، فإن الله قد وعدنى إحدى الطائفتين، والله لكأنى أنظر إلى مصارع القوم.

فعلى الرغم من تيقن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من حقائق رآها بمقتضى كونه يوحَى إليه، من رؤيته للملائكة ولمصارع القوم، إلا أن ذلك كله لم يكن مانعاً من الشورى وأخذ رأى الناس فى أمر الحرب.

وفيه إشارة دقيقة إلى تحمل المسؤولية، فالدول لا تُبنى بيد واحدة، وإنما تُبنى بالعمل المشترك الذى تتشابك فيه الأيدى المنفذة بالعقول الواعية، والتخطيط السديد، وتحمل المسؤولية من الجميع، وإلا فإن السفينة يصيبها العطب الذى قد يؤدى إلى غرقها إذا لم يكن الكل مدركاً إدراكاً صحيحاً للمسؤولية التى تُناط به.

هذا كله فضلاً عن حوار الصحابة معه عن موقع الحرب وتحديد وقوفهم فى بدر، وهو ما نتناوله فى المقال القادم.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف