المصرى اليوم
د. محمد مختار جمعة
«وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ»
لا شك أن قضية المياه أحد أهم التحديات المعاصرة، وقد تزيد التحولات المناخية الأمور تعقيدًا فى كثير من مناطق العالم، مما يتطلب وعيًا وطنيًّا وإقليميًّا ودوليًّا بقضايا المياه؛ وحتى فى حالة الوفرة المائية، فالحفاظ على الماء وترشيد استخدامه أمر مطلوب، فعندما مرَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) بِسَيدنا سعْد بن أبى وقاص (رضى الله عنه) وهو يتوضأ، فقال: (ما هذا السرف يا سعد؟)، قال سعد: وفى الوضوء إسراف؟ فقال (صلى الله عليه وسلم): (نعم وإن كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ) (رواه أحمد).
كما أننا نجد بعض الدول رغم الوفرة المائية الشديدة لديها تطبق الترشيد بقوة، وفى أعلى درجاته، حتى يصير الترشيد ثقافة مجتمع، وثقافة شعب، وثقافة أمة، وهذا هو منهج ديننا الحنيف الذى نبذ الإسراف فى كل شىء ونهى عنه، يقول الحق سبحانه: «وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» (الأعراف:31)، ويقول سبحانه: «وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا» (الإسراء:26-27)، ولا شك أن التبذير أعم من أن يكون فى المال، فإنه يشمل التبذير فى جميع المجالات، بما فيها الإسراف فى استخدام الماء وغيره.

ولقد عُرِفَ الشعب المصرى منذ نشأته بأن عقيدته تقوم على احترام نعمة مياه نهر النيل، وتقوم ثقافة أبنائه منذ القِدم على الحرص على نهر النيل وعدم تلويثه، واعتبار تلويثه جريمة من الجرائم الكبرى، وقد كان المصرى القديم يكتب ضمن وصاياه فى نهاية حياته أنه لم يفعل كذا وكذا من الجرائم، وأنه لم يلوث ماء النهر، وكأنه يتقرب إلى إلهه بهذه الفضيلة وابتعاده عن تلك الجريمة النكراء، جريمة تلويث مياه النهر، فهذه ثقافة المصريين منذ القدم، وعقيدتهم منذ الأزل فى احترام مياه النهر، والحفاظ على المياه وعدم تلويثها، وهو ما أكدته شريعتنا الغراء.

كما نؤكد أن كل نقطة ماء يمكن أن تكون سببًا فى حياة إنسان أو حيوان أو طائر أو نبات، وإهدار كل نقطة ماء قد يعنى إهدار حياة، كما أن كل نقطة ماء تساوى مالاً مقومًا، وفقدها أو إهدارها يعنى مالًا مقومًا يذهب هدرًا، كما أن الحفاظ عليها نقية بلا تلوث يعد حفاظًا على ثروة مالية، وأن تلويثها يعنى إهدارًا مائيًّا وماليًّا معًا، لأن تنقيتها تترجم إلى مال، وأثرها على الصحة لا يقوم بمال، ومن ثم يجب أن يكون التعامل مع الماء تعاملًا رشيدًا، وأن يكون استخدامه استخدامًا رشيدًا دون إسراف أو تبذير، وأن يكون الحفاظ عليه حفاظًا تامًّا واعيًا، لما لهذه النعمة من أثر فى حياتنا وحياة البشرية جمعاء.

فالماء لا شك نعمة كبرى، حيث يقول الحق سبحانه: « وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ» (الأنبياء: 30) ويقول سبحانه: «وَهُوَ الَّذِى أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِى ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» (الأنعام: 99).

وهو ما حدا بنا فى وزارة الأوقاف المصرية إلى إخراج كتاب مهم تحت عنوان: «نعمة الماء.. نحو استخدام رشيد للمياه» ليقدم تأصيلا علميًّا شرعيًّا لضوابط استخدام المياه وبيان أهميتها، وأثرها فى بناء الحضارات وضرورة الحفاظ عليها من خلال ترشيد استهلاكها، وعدم الاعتداء عليها، أو الإسراف فيها. كما يضم الكتاب ملحقًا فنيًّا إرشاديًّا عن السلوكيات السلبية التى يجب اجتنابها، والسلوكيات الإيجابية التى ينبغى اتباعها فى التعامل مع الماء، بغية الوصول إلى ثقافة مجتمعية رشيدة فى ذلك.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف