مجلة المصور
أحمد أيوب
دعم الطاقة.. كيف ننقذ المليارات المهدرة من حق الفقراء؟

لا خلاف على أن المصرىتضرر من ارتفاع الأسعار التى لم تعد تتناسب أبدا مع دخله، لكن هل يمكن أن يكون هذا سببا فى التراجع عن استكمال خطة الإصلاح الاقتصادى التى تخوضها الدولة باعتبارها حربًا لا تقل أهمية لمستقبل مصر عن حربها ضد الإرهاب.



النظرة العاطفية قد ترجح التأجيل، لكن النظرة الموضوعية المنطقية التى ترى المستقبل وتقف على المخاطر الحقيقية التى تهدد هذا الوطن تقول إن أى تأجيل سيكون خسارة ليس للحكومة وإنما للمواطن نفسه، فهو الذى سيدفع الثمن غاليا مع مرور الوقت لأنه سيعيش فى دولة غارقة فى الديون محاصرة بالمشاكل.



قد يكون هذا الكلام لا يروق للبعض، وهذا متوقع فالإنسان بطبعه يريد أن يعيش دون تكلفة، وكثير منا مبدأه فى الحياة «احيينى النهاردة وموتنى بكرة» وآخرون يتعاملون وفق قاعدة خرافية سيئة هى «اصرف ما فى الجيب يأتيك ما فى الغيب»، وهؤلاء يصلح عليهم مبدأ النظر تحت الأقدام وربما الأنانية الخالصة التى تضر بهم قبل أن تضر بالجميع، لأنهم لا يريدون مواجهة الحقيقة، بل يهربون منها بحجج واهية تضر أكثر مما تنفع.. وهؤلاء لو قرأوا جيداً قصص النجاح فى العالم لأدركوا أنها لم تكن أبداً سهلة وإنما مرت بطرق مليئة بالأشواك والمصاعب لكن إرادة النجاح هى التى حكمت.



فالقاعدة التى يسير عليها العالم وطبقها قبلنا بعقود فحقق النجاح سريعا هى التخطيط للمستقبل بموضوعية واستعداد للتضحية، لأن اقتصاد الدولة -أى دولة فى العالم- لا يصلح معه أسلوب الترميم والترقيع والتسكين والترحيل للمشاكل الذى احترفنا ممارسته فى مصر على مدى العقود الماضية وندفع الآن ثمنه.



فالاقتصاد له قلب مثل الإنسان تماماً، وكلما تعاملنا معه بتلك المسكنات تضخم وضعف وأصبح معرضا ليس فقط للانهيار بل الهلاك، والحل دائما فى الاقتصاد هو عمليات القلب المفتوح التى تجتث المرض من جذوره لتعيد إليه صوابه وشبابه.



وبكل صراحة، فى الاقتصاد المصرى ليس هناك بديل لهذه العملية الجراحية التى ترتفع مخاطرها لكنها مع نجاحها سوف تهب الحياة من جديد لهذا الجسد المنهك.



بالطبع هذه المخاطر كثيرا ما كانت سببا فى تأجيل إجراء الجراحة لسنوات بل لعقود لأنه لم يوجد من رجال الدولة من يقبل تحملها، فكل من تولى المسئولية منذ أحداث ١٩٧٧أياً كان موقعه ومنصبه، خاف من عواقب القرار وآثر السلامة بفكرة «اللى يجيى بعدى يشيل»، وظل الترحيل من حكومة إلى أخرى لمجرد الخوف ليس أكثر.



ومع كل سنة يتأجل فيها الإصلاح يزيد القلب ألما وتتضخم مشاكله، حتى أصبح الوطن يتنفس بصعوبة والمصريون أصبحوا وكأنهم يعيشون بقلب اقتصادى متعب غير قادر على الجهد أو تحمل الصدمات، وكثيرا ما دخل القلب المصرى الإنعاش بسبب هذا الإهمال فى علاجه والاكتفاء بالمسكنات ومخففات الألم التى لم تعد تصلح بعد أن أصبح الجسد لا يستجيب لأى مسكن أو مضاد حيوى.



هنا كان لابد أن يتدخل الجراح الجرىء القادر على اتخاذ القرار وفى الوقت نفسه قادر على تحمل العواقب التى لا يعرف لها مدى.



هذا الجراح بالضرورة كان لابد أن يكون مقاتلا، تعلم وتربى على عقيدة الفداء التى لا تبحث عن مصلحة شخصية، ومجد سلطوى وإنما تبحث وتضحى من أجل مصلحة الوطن بمنطق أن الأشخاص زائلون والأوطان باقية.



هذا الجراح الذى جاء فى اللحظة الحاسمة هو الرئيس عبدالفتاح السيسى الذى قبل المهمة وتحدى كل الظروف ورفض كل النصائح بالتأجيل، ليس لأنه يهوى العناد، وليس لأنه لا يشعر بمتاعب الناس، وإنما لأنه يرى الصورة الحقيقية وأشعة الوطن بين يديه تظهر أمامه شرايين الاقتصاد مسدودة ولم يعد يصلح الاعتماد عليها فى حياة طبيعية مثل بقية دول العالم المستقرة اقتصاديا.



اتخذ الرئيس قرار الإصلاح وكل القريبين منه، من وزراء أو مستشارين يعلمون أنه أكثر من يدركون الثمن الذى قد يدفعه شخصيا لهذا القرار، لكنه رغم ذلك كان أكثرهم ثباتا وإيمانا بإرادة المصريين ورهانا على أنهم لن يقبلوا أن يموت اقتصاد دولتهم بين أيديهم، فالمصرى الذى يقبل أن يضحى بحياته من أجل دولته كما حدث ويحدث من رجال الجيش والشرطة فى سيناء، لا يمكن أن يتأخر أو يتردد فى أن يضحى بجزء من راحته أو بقدر من إنفاقه من أجل إنقاذ بلده.



كانت صراحة الرئيس من البداية هى الأساس الذى قامت عليه خطة الإصلاح وإجراء الجراحة الصعبة، فقد أعلن بكل وضوح وبالمدد الزمنية والأرقام كيف سيتم الإصلاح الاقتصادى وهيكلة الدعم كى يصل إلى مستحقيه، بل حدد بالتوقيتات كل خطوة فى تصحيح أسعار الخدمات والسلع التى تقدمها الحكومة من المنتجات البترولية والكهرباء والمياه ووسائل المواصلات، حتى يكون الجميع على بينة من الأمر ويكون المواطن مشاركا بنفسه فى مساندة الحكومة للوصول إلى الحالة الصحية المطلوبة للاقتصاد الذى يسند المواطن ويحمى الوطن.



ومثلما كان الرئيس صريحا فى الكشف عن الإجراءات التى لا بديل عنها لإنقاذ الاقتصاد، كان أمينا فى تنفيذ كل خطوات الإصلاح فى توقيتاتها، لكن بمشرط جراح ماهر يجتث الورم دون أن يمس أعضاء الجسد التى لن تتحمل المساس بها، فكانت دائما كل خطوة إصلاح تصاحبها إن لم تكن تسبقها، إجراءات حماية تؤمن الفقراء ومحدودى الدخل والبسطاء من هذا الوطن.



لم تكن الإجراءات الحمائية للفقراء كما يقولون، شغل سياسة، وإنما كانت جزءا من التصحيح، لأن هذه الفئات هى التى تستهدف العملية الجراحية الوصول إليها لحمايتها وضخ الدم فى شرايينها وإنعاشها بعد عقود طالت كان لا يصلهم فيها إلا الفتات وبواقى الأغنياء.



الآن هذه الفئات هى هدف الرئيس، وهى المطلوب تعويضها ورفع شأنها وإصلاح أحوالها وتحقيق العدالة لها، من خلال دعم مستحق يصل إليها دون سرقة أو إهدار، وسكن إنسانى يليق بها، وتأمين صحى يحميها من غدر الزمن،



ولهذا فقد مرت المراحل الثلاث الأولى من العملية الجراحية الإصلاحية بنجاح وحققت أهدافها، لأن المصريين ساندوها ثقة فى القيادة ورغبة فعلية فى الإصلاح، وقد ظهرت نتائج هذا النجاح فى مؤشرات عدة يراها ويشعر بها الجميع مثل انخفاض البطالة، وارتفاع معدل النمو، لكن رغم كل هذا ما زالت العملية الجراحية مستمرة وما زال الجسد المصرى يعانى، لأنه فى فترة النقاهة التى تتطلب مزيدا من الإصرار الشعبى على التحمل والخروج من الأزمة واستعادة النبض الطبيعى الذى يصلح للحياة الهادئة بلا أزمات خانقة.



فلا يخفى على أحد أن الاقتصاد رغم ما وصل إليه من تعاف، لكنه ما زال معتمداً على الأجهزة الحكومية، فأرقام الدعم التى تتحملها الموازنة العامة ضخمة.. وخاصة دعم الطاقة والأخطر أن أغلبها لا يصل لمستحقيه، بل يطير إلى فئات أخرى تستولى عليه دون حق، بينما يحرم منه أهل الحق أنفسهم.



هذا ما تؤكده الأرقام وليس الاجتهاد، وعلى سبيل المثال فدعم المنتجات البترولية هذا العام سيصل إلى نحو ١٢٥ مليار جنيه، النسبة الأكبر منها ذهبت إلى المقتدرين، وإذا سرنا على نفس الأسلوب فى الدعم فسيرتفع الرقم فى العام القادم إلى ١٦٠ مليارا وربما أكثر من هذا، إذا شهدت أسعار «برنت» العالمية ارتفاعا أكثر مما هى عليه الآن.



هنا يكون السؤال المنطقى.. من يستفيد من هذا الدعم الضخم؟



من يدفع الفارق بين التكلفة وبين السعر الذى تباع به هذه المنتجات فى السوق والتى بلغت خلال الشهور التسعة الأخيرة فقط ٨٥ مليار جنيه؟



المؤكد أن من يستفيد من الدعم هم المقتدرون والأثرياء ومن يدفع الفرق هم الفقراء الذين لو كان القرار بأيديهم لأعلنوا أن الأفضل لهم أن يتحول الجزء الأكبر من هذا الرقم المهدر فى دعم الطاقة إلى مبالغ مالية تضاف إلى نصيبهم فى البطاقات التموينية لتمنحهم سلعا إضافية، أو أن يزيد ما يحصلون عليه من دعم تكافل وكرامة أو ترفع مرتباتهم ومعاشاتهم.



وهذا بالفعل هو ما يتم فكل جنيه تستهدف خطة الإصلاح تخفيضه من الدعم المهدر بلا جدوى لن يتوه فى جداول الموازنة، وإنما له مكانه فى حزم الحماية الاجتماعية التى لها طريق واحد هم الفقراء ومحدودو الدخل هذا ما تسير عليه الحكومة تخفيض الدعم تدريجياً لتزيد الحماية الاجتماعية للفقراء ويتمتعوا بحقوقهم كاملة.



بالتأكيد مع كل خطوة تصحيح أسعار تنفذها الحكومة وفقا لجدول الإصلاح، سيظهر المزايدون المحرضون الذين يتاجرون بالفقراء ويريدون إشعال البلد بالفتن والشائعات التحريضية.



كما سيظهر المستغلون من التجار الذين لا يفوتون فرصة دون التربح منها وتحقيق مكاسب ضخمة بحجة زيادة أسعار الوقود أو الكهرباء أو أى خدمة.



لكن كل هؤلاء أصبحوا مفضوحين بين المصريين الذين يدركون جيدا أن تصحيح الأسعار وهيكلة الدعم ليست سببا حقيقيا لرفع الأسعار بهذا الجنون الذى يمارسه بعض المستغلين من التجار ومافيا النقل من ميكروباص وسيارات نقل البضائع.



ولهذا يجب أن نتحدث بصراحة ووضوح فعبء تصحيح الأسعار الذى تمارسه الدولة لمصلحة المواطن لا يجب أن يقع كله على المريض “البسطاء ومحدودى الدخل الذين يتحملون الثمن الأكبر فى الإصلاح” والطبيب وفريق الجراحة “الرئيس والحكومة»، بينما هناك فئات لا تفعل سوى أن تحصد الثمار.



بالتأكيد المواطن البسيط مستعد للتحمل وأثبت هذا فى كل المرات السابقة ومستعد لتأكيد ذلك فى المرة القادمة أيضا رغبة فى المستقبل الأكثر أماناً.



أما الحكومة فبتوجيه واضح ومستمر من الرئيس تضع البدائل التى تسند المواطن فى هذه المرحلة ومنها مثلا زيادة المرتبات والتى خصص لها فى الموازنة الجديدة ٢٧ مليار جنيه هو رقم كبير مقارنة بالموازنات السابقة، ومنها أيضا زيادة المعاشات، وإجراء دراسة جادة من أجل رفع نصيب الفرد فى بطاقة التموين بمبلغ جيد، ومنها توسيع خريطة المستفيدين من برنامج تكافل وكرامة، بالإضافة إلى إجراءات أخرى قد تكون غير مباشرة، مثل التأمين الصحى والإسكان الاجتماعى لكنها تخفف عن المواطن ألم الأسعار وتحقق التوازن المطلوب.



لكن القصة فى النهاية ليست مواطنا وحكومة، وإنما لابد أن يتحمل الجميع الثمن مشاركة ويساعدوا الجزء المنهك من الجسد على الصمود وتحمل الألم، لأن المصريين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وهذا دور التجار ورجال الأعمال والمقتدرين الآن، فلا داعى للمبالغة والتربح على حساب المصريين، لا مجال للانتهازية القاتلة التى لا تراعى قيما ولا أخلاقا ولا مبادئ، الجميع مطالب بمراعاة الضمير فى التعامل مع هذه الفترة من أجل الخروج بأقل الخسائر حتى تقف الدولة ثابتة على أقدامها.



فإذا أرادت الدولة إعادة النظر فى أسعار الخدمات مثل الطاقة وفقاً لخطة الإصلاح المعلنة منذ سنوات فلا مجال لأن يراها البعض فرصة لرفع الأسعار بشكل انتهازى، وإنما علينا أن نكون على قدر المسئولية وأن يتعامل الجميع بشرف ووطنية للتخفيف عن المواطن.



وفى الوقت نفسه على الدولة ألا تصمت، وإنما تواجه الانتهازيين بحسم وعنف، فالحكومة تحتاج أن تكون لديها القوة الغاشمة فى مواجهة هؤلاء للقضاء على الاحتكار والجشع والفساد فى الأسواق من أجل أن يمر الإصلاح بالطريق الذى نريده لصالح هذا البلد، كما على المحافظات أن تكون حاسمة فى إجراءاتها ضد أى مستغل، سواء فى النقل أو الخدمات الأخرى والسلع فى الأسواق، فلا يعقل أن يكون الهدف الأسمى هو تحقيق العدالة للمواطن البسيط فتتآمر القلة ليحولوها إلى مصالحهم الشخصية، لن تقبل الدولة هذا ولن تترك المواطن فريسة للطماعين، وإنما ستقف بجانبه وتدعمه وتحميه، وعليه هو أيضاً أن يحمى نفسه بالوعى وعدم الاستسلام لمافيا التربح.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف