الأهرام
القمص أنجيلوس جرجس
العائلة المقدسة فى مصر لماذا؟
الأول من شهر يونيو في كل عام نحتفل بتذكار مجيء السيد المسيح والعائلة المقدسة إلى مصر. وتاريخ الشعوب يُكتب بالأحداث العظيمة التي تمر عليها. وهذا الحدث هو أعظم ما نفخر به بل وتحكيه الشعوب في العالم كله إجلالاً لبلادنا. فكلما يقرأ الكتاب المقدس وتُحكى قصة ميلاد المسيح ومجيء المجوس حكماء الشرق ليقدموا للطفل يسوع هداياهم يُحكي عن هروب العائلة المقدسة من أرضهم إلى بلادنا مصر.

وتتجه الأنظار والأفكار إلى مصر باستغراب شديد فلماذا لم يتدخل الرب ويميت الملك الشرير الذي أراد قتل السيد المسيح وهو طفلا؟ أو لماذا لم يخفه عن الأعين كما فعل مع يوحنا المعمدان الذي ولد قبل السيد المسيح بستة أشهر وأخفاه الرب في البرية سنوات طويلة إلى أن ظهر قبل استعلان السيد المسيح ليعتمد منه.

وإن كان لابد أن يهرب من بيت لحم فلماذا مصر؟ كان يمكن أن يعبر البحر يكون في اليونان، أو يذهب شمالاً إلى الشام، ولكنه جاء إلى مصر لأنه يريد أن يمكث بها سنوات طفولته الأولى. وكان هذا للآتي:

أولاً: مصر لها مكانة خاصة في كل قصص علاقة اللـه بالبشر. حين حدثت مجاعة أيام إبراهيم أب الآباء جاء إلى مصر. وكان تدبير اللـه لإنقاذ العالم من الجوع أن يأتي يوسف الصديق مبيعاً من أخوته كعبد ثم يسجن لأجل طهارته، ثم يفسر حلم فرعون ويصير الرجل الثاني والمدبر لمخازن الغلال في مصر ويحمي العالم من الجوع، ثم يأتي إليه أبوه يعقوب وإخوته ويعيشون في صان الحجر بالشرقية إلى أن يولد موسى النبي وهو الذي تكلم مع اللـه وجهاً لوجه وأرسله كي يخرج شعبه ويؤسس العهد القديم والديانة اليهودية.

ولك أن تتصور أنه منذ أن طرد آدم وحواء من الفردوس لم يشرق الرب بوجهه على أرض إلا في مصر. وعلى جبل سيناء ظهر الرب وكلم موسى وظل أربعون سنة يصنع معجزات وأعمالا على أرضنا.

وإلى مصر جاء أرميا النبي أيضاً وعاش فيها. لذلك كان لابد أن يأتي السيد المسيح كي يعلن العهد الجديد من نفس مكان العهد القديم، فعبر على سيناء ودخل أرض مصر لكي يكمل تقديس أرضنا الطاهرة.

ثانياً: مصر هي أرقى وأعمق حالة روحية منذ القدم. فبينما كانت البشرية تعيش في همجية الفكر والتصورات المادية والعبادات الوثنية كانت مصر تعيش في حالة روحية وإشراق عميق في العلاقة مع الإله الخالق. وكتبنا كثيراً وأثبتنا أن أجدادنا لم يعبدوا الأوثان، وكانت الأشكال والصور المرسومة والمنحوتة هي رموز لقوة الإله وليس الإله نفسه.

ففي بردية ترجع تاريخها إلى أربعة آلاف عام كُتب فيها نشيد وصلاة تقول عن الإله: «هو الواحد الذي لا يشوبه نقصان، هو الباقي دوماً والخالد إلى الأبد، هو المطلق الأسمى، هو جماع الأفكار التي لا تدركها الحواس، هو الفكر الأول، هو أعظم من يطلق عليه اسم (أتوم) هو الخفي المتجلي في كل شيء، لا جسد له ولكنه في كل شيء، لا اسم له، هو الجوهر الكائن في كل شيء، هو أصل ونبع كل شيء، هو الواحد الذي ليس كمثله شيء».

وكان المصريون يؤمنون بالإله الواحد الذي لا يدرك وأعطوه أسماء كثيرة كي يقربوا إلى الأذهان فكرة الألوهية. لذلك حين ظهر الرب لموسى على جبل سيناء وقال له: «أنا إله آبائك» فسأله موسى النبي: «ما هو اسمك؟» فقال له الرب: «أنا الكائن الذي هو كائن». أي ليس له اسم ولكنه الكائن بذاته. وهذا ما أدركه المصريون ولكنهم أعطوه أسماء مختلفة للتبسيط والتقريب للبسطاء.

ويقول هيرودوت: «إن أهل طيبة يعرفون الإله الواحد الذي لا بداية له الحي الأبدي». ويقول هنري بروكش عالم الآثار الألماني (1894م): «أن المصريين كانوا يؤمنون بالإله الواحد... ولا أحد يعرف شكله والكائن بذاته ومعطي الوجود».

لذلك جاء السيد المسيح ليعطي عمقاً آخر لروحانية المصريين ويكون الإشراق كاملاً بمجيئه إلى الأرض التي اشتاقت لمعرفة الإله الحقيقي، وفيها كانت أعظم حضارة روحية بجانب الحضارة العلمية والمدنية.

ثالثاً: جاء إلى مصر أيضاً ليؤسس الكنيسة ويضع حجر الأساس لمنارة المسيحية، فكما قال الرب في نبوة إشعياء النبي الإصحاح التاسع عشر: «في ذلك اليوم يكون مذبح الرب في وسط مصر».

وفي وسط مصر هو دير المحرق الآن، فقد كانت هذه النبوة التي سبقت مجيئه إلى مصر بثمانية قرون تشير إلى سكنى العائلة المقدسة في جبل قسقام وهو اسم مصري قديم لمدينة كانت عاصمة الولاية الرابعة عشرة في الصعيد، وكان معبدا لصنع البردي والكتان. والاسم يعني المكان الأعلى لأن به كان يتم التحنيط ولف الجسد بالكتان، وكانوا يخرجون بقايا البردي في مكان بعيدٍ عن المعبد ليحرق لذلك سمى أيضاً بالمحرق.

وهناك عاش السيد المسيح والعائلة المقدسة ستة أشهر وهي أكبر فترة استقرت فيها العائلة المقدسة لذلك يدعى دير المحرق أورشليم الثانية وهو المذبح الذي أشارت إليه النبوة. لذلك مصر بها قوة روحية عميقة جداً.

وبعد أن جاء القديس مرقس إلى مصر ليؤسس الكنيسة القبطية ورثت هذا العمق الروحي سواء من أجدادنا الفراعنة، أو من بركة وجود العائلة المقدسة فيها. وأشرقت للعالم كله بنور لا يخبو ولا ينطفئ إلى الآن، فمنها خرج علماء اللاهوت المسيحي، والأنبا أنطونيوس مؤسس الرهبنة، وملايين الشهداء والقديسين الذين هم أعمدة المسيحية في العالم كله.

لذلك جاء السيد المسيح إلى مصر خاصة كي تصير مصر أرضا مقدسة طالما الشمس تشرق والقلوب تنبض. وستظل مصر محفوظة بهذه البركات الروحية التي يحفظها التاريخ ونفتخر بها. ويجب علينا أن نخبر أولادنا بقيمة بلادنا حتى لا يفرطوا في ذرة من ترابها ويظلوا حافظين العهد بحبها والولاء لها.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف