علاء خالد
صور «زيت الزيتون» في الديانة المسيحية
في زيارة أخيرة، منذ سنتين، للدير الأبيض في صحراء محافظة سوهاج، ضمن رحلة لأديرة الصعيد؛ استوقفتني تلك الرائحة المميزة للدير من الداخل، وهي رائحة موحدة في كل الأديرة. لا أصفها بأنها رائحة "جميلة" أو" طيبة"، بالمعنى الذي أعرفه حديثا عن الروائح الجميلة أو الطيبة، ولكنها رائحة "عتيقة". ربما كان هناك معنى قديم للرائحة الطيبة مختلف عن معناه الآن.
ربما ذاكرة الشم عند الإنسان الحديث اختلفت تماما عن الماضي، لدخول الروائح المخلَّقة والتي لم تكن موجودة من قبل. عرفت بعدها أنها رائحة زيت الزيتون بعد خلطه بمجموعة أخرى من الزيوت، ويوضع الخليط داخل الشموع الموقدة في كل أنحاء الدير، تحت الأيقونات المقدسة.
***
في أثناء تجولي في صحن الدير، دخلت إحدى الغرف الملحقة به، كانت هناك مجموعة من السيدات مختلفات الأعمار يجلسن على الأرض حول منضدة، ويقمن بتعبئة هذا الزيت المقدس داخل زجاجات صغيرة، والتي يتم بعدها إهداؤها إلى زوار الدير، لأن هذا الزيت، كما قال الراهب المرافق عندما سألته عن ارتباط الديانة المسيحية بالزيت، قال: إنه الروح القدس الذي يدخل جسم الإنسان عبر الزيت.
هذا "الروح القدس" يمكن أن يحل في أي شيء، ويمكن الإمساك به وملامسته عبر أحد رموزه الهامة التي يمكن أن يحملها وهو الزيت، الذي تتداوله السيدات والأطفال، كما يتداولن الماء والأكل والشاي، كما يظهر في الصور المرفقة.
***
زرت كنيسة السيدة العذراء بحي مار جرجس بمصر القديمة عام 2000، وشاهدت طوابير من السيدات اللاتي ينتظرن القس الذي يقوم برش الماء على وجوههن ويدعو لهن بالشفاء وبتحقيق مطالبهن الدنيوية. هذا الماء يأتي مباشرة من الصنبور المعدني الذي نشرب منه جميعا، ولكن بمجرد أن يضع القس يده داخل الماء ويقرأ عليه بعض الآيات المقدسة، حتى يكتسب قدسيته، وفعاليته في الحال.
***
أخذ زيت الزيتون دورا هاما في الديانة المسيحية، ربما أكثر من الإسلام واليهودية، فهو مع الخبز والنبيذ والماء، يشكلون أهم رموز الديانة التي تم الاعتماد عليها وتأويلها والاستعانة بها للكشف عن باطن هذه الديانة.
***
لاتزال معجزة الأيقونات التي يرشح منها الزيت مستمرة حتى الآن. عندها تتحول الأيقونة المرسومة إلى شجرة زيتون تُعصر عصرا خفيفا حتى يسيل منها هذا الخيط من الزيت المقدس. كأن وراء كل أيقونة أو صورة لأحد القديسين، تنتظر شجرة زيتون لا ينفد زيتها. ربما هذه المواد: الزيت والماء والخبز، والنبيذ، اكتسبت قدسيتها من أنها عاصرت رحلة حياة الإنسان من بدايتها على الأرض حتى وصلت لعصور الرسالات؛ فأصبحت مقدسة، لأنها أصبحت أحد رموز التأويل ونقل هذه الحياة، ورسالتها المقدسة للعالم المستقبلي الذي ينتظرها.
***
صار "الزيت" سرا من أسرار الديانة المسيحية، واتخذ المسيحيون شجرة الزيتون رمزا للدين والآلام، لأن المسيح تألم على جبل الزيتون، وتحول الزيت الذي يخرج منها، إلى رمز للروح القدس الذي يسري فيها. يدخل الروح القدس جسم الإنسان عبر مسحه بالزيت. هناك طقس هام في المسيحية، اسمه "المسحة"، ويتم خلاله مسح الأطفال عند عمادهم بزيت الزيتون أو "زيت الميرون"، الذي يتكون بشكل أساسي من زيت الزيتون، بجانب بعض الزيوت الأخرى، حتى تُسد كل المنافذ التي يمكن أن يدخل منها الشيطان هذا الجسد.
زيت الزيتون، جوهر شجرة الزيتون، ما هو إلا قناع ليعبر من خلاله الروح القدس، ليصل للإنسان ويشفيه أو ينير له طريق الإيمان، أو يكون فقط معبرا لمرور "الروح الأبدية".
***
هناك شيء أبدي في زيت الزيتون، لأنه يأتي من شجرة قديمة ترمز للأبدية، فأوراق شجرة الزيتون باقية طوال شهور السنة على الشجرة، ولا تجف أبدا. لذا أصبحت شجرة الزيتون هي الصورة المناسبة لهذا الشيء الأبدي، للروح القدس التي يمكن أن تدخلها وتعبر من خلالها، وتصل لنا، لأنها ترمز للخلود. فالزيت هو مادة هذا الخلود التي يمكن أن نلمسها في حياتنا اليومية كما نلمس الماء.
***
هذه "الروح القدس" كان لها حضور أيضا في عالم التوراة، خلال رحلة الطوفان الكبرى، التي استمر فيها المطر المدرار أربعين يوما، فاختار النبي نوح أزواجا من البشر والحيوانات لكي يكملوا رحلة الحياة بعد هذا الطوفان، وركب بهم السفينة، بعيدا عن الأرض التي وصل لها الطوفان، وبحثا عن أرض جديدة. احتمى نوح من الماء بالماء! عندها أرسل نوح الحمامة عدة مرات، وفي إحداها عادت الحمامة وهي تحمل غصن زيتون في منقارها. دليلا على أنها وجدت أرضا صلبة يمكن أن ترسو عندها سفينة الحياة الجديدة. كانت شجرة الزيتون في استقبالهم، بل ودليلهم على عودة الحياة واستئنافها. ورقة الزيتون الخضراء التي حملتها الحمامة كما تدل على انتهاء المطر، وظهور الأرض، أيضا تدل على السلام الذي منحه الله للأرض بأن أوقف المطر.
***
أصبحت صورة شجرة الزيتون رمزا للكنيسة وللدين المسيحي نفسها، من حيث إنها مملوءة بهذا الزيت المقدس، والذي تمنحه للناس، أو المؤمنين، الذين صار كل منهم مثل زيتونة، أو أحد أغصانها لأنه يحمل الزيت أو الروح القدس بداخله عبر اتصاله بجذر هذه الشجرة الأبدية. فالشجرة تحمل الجزءين الإلهي والأرضي والرمز الذي يجمعهما.
***
تسعى الديانة المسيحية نحو الترميز، لتجمع الإلهي والأرضي معا داخل رسالة أو صورة واحدة، تجمع داخلها الطاهر والباطن. أغلب المعاني المرتبطة بالديانة المسيحية تحتاج لتأويل. الديانة المسيحية نفسها قامت على تأويل وتفسير رحلة السيد المسيح، فالتعاليم مستبطنة داخل هذه الرحلة، وأيضا داخل كل المعجزات التي رافقت الرحلة، التى اختلط فيها الإلهي بالأرضي، أو صار كل ما هو أرضي إلهيا بقوة المعجزة. فالرموز التي تمتلئ بها نصوص الديانة المسيحية، تعنى بأن هناك عالما آخر غير ظاهر لا يتم الوصول اليه إلا باالقدرة على التأويل، وأيضا بتفسير المعجزة الرمزية والحياتية.
** *
هناك قراءات عديدة ساعدتني في كتابة هذا المقال
* فوتوغرافيا: سلوى رشاد