يسرى عبد الله
محمد صلاح.. فى تفكيك الظاهرة
ربما لم تشتعل وسائل التواصل الاجتماعى فى العالم منذ فترة مثلما اشتعلت عقب مباراة ريال مدريد، وليفربول، وتحديدا عقب خروج اللاعب المصرى محمد صلاح مصابا جراء العنف الذى مارسه اللاعب «راموس» تجاهه، بدا الجمهور متوحدا مع بطله الجديد «مو صلا»، وبدت لحظة بكاء اللاعب متجاوزة لفرديتها الخاصة، وواقفة على أعتاب بكاء جماعى حول هذا الحلم المستلب، الذى يخرج الآن من ملعب المباراة/ الواقع، دون أن يحصل على الكأس/ الأمل. تكفلت الجماهير الغفيرة بالانتصار لبطلها الملحمي، الذى غذى صورته داخل العقل العام وعى مولع بالأسطورة، مفتون باستلهام النموذج فى ظل إحباطات لانهائية، ومجتمعات تعانى داخليا مشكلاتها السياسية والاجتماعية، وتقف خارجيا موقف المدافع عن نفسه دائما فى مقابل اتهامات متواترة بالعنف والتخلف، وشعور عارم لدى الذهنية الغربية بأسطورة التفوق النوعى للرجل الأبيض، ومحاولة إشعار الشرقيين أنفسهم بصدقية هذه الفكرة، بينما يتماس مع ما اسماه المفكر إدوارد سعيد من قبل بشرقنة الشرق، أو وضع الشرق كما يريده الغرب، وتثبيت صورة ذهنية بإزائه تستقر فى العقل العام للشرقيين أنفسهم. لكن لا يعنى ذلك فى الحقيقة الانصياع لفكرة المؤامرة بوصفها تعبيرا عن جوهر الأشياء، وليس ذلك من منطق نفيها أو عدم نفيها فحسب، ولكن من منطق عدم الخضوع للهواجس والركون إليها، وتحميل أى إخفاق على مكون خارجي، والتغافل عن الأخطاء الكارثية للذات. من بعيد، بدأ محمد صلاح، من قرية مصرية حيث البساطة كل شيء ولا شيء فى آن، قد تصير مروية من مروياتنا الأدبية التى قد تجد بعض ملامحها فى كتابة عن الريف المصرى تخص يوسف إدريس، أو محمد البساطى، أو خيرى شلبي، أو يوسف أبورية، أو أى كاتب بدت القرية لديه مركزا للسرد، وجوهرا للحكاية الفنية، هذه القرية التى بدا اللاعب الموهوب على وفاق نفسى مع ناسها، وفى تماس معهم، فلم ينفصل عن محيطه الاجتماعى انفصالا كليا، بل ظل داعما لمكانه وناسه بمحبة ونبل شديدين.
وفى العالم المسكون بتعقيدات المتن والهامش، وجدلهما الخلاق، لم يلتحق اللاعب الموهوب بأحد الناديين الكبيرين، فكان فى الهامش متسع للوجود، لملامسة عالم أكثر رحابة بعد سنوات قليلة، ينتقل فيها صلاح من ناديه المحلى إلى ناد أوروبي، يبدو مثل محطة لرعاية المواهب الكروية، وله تاريخ متواتر مع عدد من اللاعبين المصريين، وأعنى به بازل السويسري، الذى انطلق منه صلاح صانعا نجوميته الحقيقية، هنا ستبدو الانتقالات المستمرة لصلاح بين صفوف أندية شهيرة مثل تشيلسى ووروما وليفربول، تعبيرا جليا عن قدرة عارمة على التكيف، وحراسة الأمل بلا حس دعائي، والحفاظ على الذات من هواجس التوتر الزائد، والامتثال لقانون الصخب الذى يحكم الميديا فى العالم، وقد صار صلاح واحدا من فرسان هذه الميديا وموادها الخبرية المستمرة. وإذا كانت الجماهير قد بكت مع بطلها الشعبى لحظة خروجه من الملعب، فإنها أيضا قد بكت ولكن فرحا هذه المرة لحظة تتويجه أفضل لاعب فى القارة السمراء، ومن قبل ومن بعد، فى لحظة الانتصار المذهل فى المباراة الدراماتيكية ضد الكونغو فى التصفيات المؤهلة لكأس العالم، حيث بدا كل شيء قابلا للرحيل يومها، وعلى الرغم من أن المباراة كانت تتجه لنهاية محزنة لنا جميعا، كان ثمة شخص له رأى آخر، أمكن له تحقيقه عبر تسديده ضربة جزاء فى شباك المنافس، وفى توقيت قاتل من عمر أى مباراة. يحب المصريون أبطالهم الشعبيين، ويفخر العرب بأبنائهم، وترى الجماهير المنصفة حول العالم أن آليات التخطيط العلمي، والدأب، والإنجاز، وإنكار الذات، والارتفاع عن المهاترات، والعبور اليومى على المعارك المجانية، والتركيز فى أن ننجز ما بين أيدينا من أعمال، سمات أصيلة لأى موهبة تتخطى عالمها الضيق صوب سياق أكثر براحا، وفاعلية. من هنا كان للمصرى صلاح أنصار فى بلدان عديدة، وفى مدن لعب لأنديتها الشهيرة، لذا ستجده حاضرا فى روما وفى ليفربول وفى غيرهما، حضورا محببا إلى الكثيرين، ولكن لن يكون غريبا أن يهاجمه البعض، فالإجماع ظاهرة عبثية وغير موجودة، وستجد فى مقدمة هؤلاء الموتورين تلك الكتائب الإلكترونية لتيارات الإسلام السياسي، التى سعت إلى النيل منه عقب تبرعه لصندوق تحيا مصر.
تكبر ظاهرة محمد صلاح فى الفضاء العام، محاطة بمحبة حقيقية تراها فى البيوت والمقاهى والأزقة، فى شوارع من ذهب، وأخرى من تراب، تكبر الظاهرة ويكبر معها الأمل، وتكبر معها الأمنيات، حيث كل شيء يخضع للعمل، للوجود الأصيل وليس الزائف، ويتحول صلاح إلى علامة على جملة من القيم النبيلة والدافعة لعالم خصب ومتجدد، مسكون بالإنجاز، الذى نتمناه حقا ونحن ننتظر نجمنا الكبير فى كأس العالم بين رفاقه ليسعد ملايين المصريين والعرب من جماهير شعبنا العظيم.