الأهرام
عبد الجليل الشرنوبى
فى بيوتنا ثانوية عامة
يَسرى فى المسجد صوتُ مُبتهل فجر السابع عشر من رمضان الثالث من يونيو، يهز رواد المسجد رءوسهم فى خشوع، حتى يبدأ المُبتَهِل فى دعائه «اللهم وَفِّق أبناءنا طلاب وطالبات الثانوية العامة، واجعل نجاحهم دعما لبناء الأمة، وأزح بجميل أمانيهم كل غُمَةْ، وأعل بتفوقهم راياتنا فوق كل قمة» ما إن بدأ المُبتَهِلُ الدعاء حتى جأرت الأصوات بالتأمين، وارتفعت الأيادى للمُوَفِق تسأل المدد، وتعلقت العيون بأستار غير مرئية للأمل مُسدلة من عرش الكريم، كان المسجد العتيق مكتظاً، وكان المُؤَمِِّنُونَ خلف المبتهل من كل الأعمار، فَجَدٌ يتطلع لأن تَقَرَّ عيناه بنجاح أحفاد، وأب يُلحُ على الله ليكون إلى جوار بنيه، وأخ يدعو لأخيه، وجار يلتمس التوفيق لأبناء جيرانه، وفتية يطرقون باب العون عسى يَفتح الله لهم إلى الغد سبيلا، مشهد بالتأكيد مر على وعى الكثيرين خلال مطلع هذا الأسبوع، ولا يمكن أن تختلف تفاصيله من المسجد إلى الكنيسة إلى البيوت والشوارع والأزقة، فمصر تتأهب لتدفع بدماء جديدة إلى ساح التخصصات الجامعية المختلفة، عسى الله أن يُخرج من بين دفقات الدماء الفتية من يُجَدِدُ للوطن مجده القديم، ويأخذ بيد الأمة إلى حيث مكانتها التى كانت وتستحق.

ما بين حر صيفٍ يقتحم الأبدان والأرواح، ومكابدة صيامٍ يُعالج النفوس بالامتناع عن المُباح، يتجسد المستقبلُ فَلَذَات أكباد تختم مرحلة الثانوية لتخطو نحو غد مأمول، زَرْعُ أعمار أمهاتٍ وآباءٍ، نما فى أيامٍ تُصارع أحلامُها فَزَعَ اليَقَظَة، وتُقاوم سحب أمانيها أفقاً تضيق رحابته، وتُكَبَلُ عزائم الأوطان بعللُ عقودِ فَسَدَتْ وأَفْسَدَتْ، وتتابع على بلادنا موجات اجتثاث لكل جذور، ومؤامرات إرباك وإنهاك فإفشال تستهدف رسم موقع أمتنا على خريطة (عالم جديد)، حيث سَدنة نظامه يؤمنون بإنسانهم فقط، ويرون مَنْ دُونَهُ مجرد وقود لماكينات حضارتهم. ينظر الشيخ العجوز إلى حفيده طالب الثانوية العامة نظرة إشفاق وأمل، يقول له باسماً (روح يا ابنى إلهى يجعل أيامكم أحسن من أيامنا، ويِجعل علمكم أنفع لكم مما تعلمنا، ويجعل عملكم عامود أيامكم، وينجيكم من شر اللى جَرَّبُوا فينا وما وَصَلوش، واللى خبطوا فينا وما رحموش)، يُقَبِّل الحفيد يد جده ويتركه لأقرانه ليوصلوه بينما يُسرع هو بالانصراف قائلاً (كفاية على جيلى الدعوة دى حافز علشان يحاول، أنا هأجرى علشان أراجع)، ويركض الفتى بينما يقف العجوز وصحَبه كل منهم يستند على عصاه، ويتطلعون بعينٍ من أمل وأخرى من رجاء، إلى الحفيد وخطواته المتسارعة الرشيقة، يبتعد الفتى فيما يرفعون جميعهم أعينهم إلى السماء حيث ضى لصبح يلوح. عاشت بلادنا عصراً شمولى المنطلقات حتى أُدخلنا معها عصر الانفتاح ثم الخصخصة، وعايش جيل الأجداد هزيمة القضية والجند مُراً سرى انكسارا ثم انتصاراً لم يشف مراراً، ثم ماع كل شيء بفعل الفساد والإفساد، ثم اختلط الحابل بالنابل ثورة، وماج المحظور فى الراكد ليركب الثورة، وحين استشعر الناس فى وطننا خطراً على ثبات الوطن تحركوا بغير حساب إلا استرداد وطن لم يُضيعه ناسه منذ أشرقت شمس دولته مع فجر التاريخ، واستيقظ الجميع على واقع الصدمة، حين أعلن المكلف بالإدارة أننا نحيا فى شبه دولة خلفها المفسدون ورعاها السلبيون والنفعيون والأميون والمتطرفون وأشباه الأصل فى كامل التخصصات، حتى بات الحلم بالغد القادم على ضفة أخرى من حياة يطاردنا إيقاع احتياجاتها.

فى بيوت أوطاننا حالات طوارئ، رفعت حالة التأهب القصوى تعليمات بالهدوء فى المنازل، ووصايا بالصلوات والدعوات فى دور العبادة والخلوات، وحبات من أمل تبرق فتداعب مخيلة جيل الأجداد والآباء بغد بالأبناء قادم. إن الحديث عن الثانوية العامة بتفاصيل مكوناتها، مناهج ودروس خصوصية ومراجعات نهائية و(بوكليت)، وتأمين وإقامات مدرسين وإعاشتهم، وبالتآمر على واقعها تسريباً أو ادعاء تسريب، جميعها تظل تفاصيل فى مشهد الأمل الذى طال انتظاره، القضية ليست إلى أى كلية سوف يذهب أبناؤنا، قدر كونها إلى أين سيسير بأوطاننا هؤلاء الأبناء، إنها القضية المُنْجِيَّة من كابوس واقِعُه السير فى المحل على مدى عقود، هاجمتنا فيها ظاهرة الثانوية العامة بتعدد تجريب الوزراء فيها، وكليات القمة التى تغازل كل الآباء، وطوابير ذوى المجاميع النهائية حفظاً لا فهماً، والخريجيونن أصحاب الشهادات الورقية لا الفعلية، والجامعيون المُدَّعون لا المبدعين. إن الأجداد الذين لا يكفون عن طرق باب الله دعاء لأحفادهم بالنجاح فى الثانوية العامة، لا يأملون فى نجاح يماثل نجاح الآباء الورقى والتقليدي، وإنما يتمنون على الله جيلاً متحققاً يولد من رحم ثانوية عامة، هدفها صقل خبرات الإنسان المصرى واستدعاء طاقاته الكامنة فى جينات أصله، ليُبتعث به الوطن من حالة الموات، أملٌ لا يُعلقه الأجداد فى رقبة الأبناء وإنما يضعونه قبلهم فى عنق المفوض بالإدارة من قبل صاحب السيادة، حتى يتم تفعيل دور الدولة الراعية للأجيال الآتية.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف