الأهرام
د . انور مغيث
معنى أن نفكر بحرية
إذا أردنا أن نبحث عن معنى التنوير عند رائد هذا التيار الفكرى وهو الفيلسوف الإنجليزى جون لوك، يمكن أن نقول إنه الفصل بين خلاص النفوس فى الحياة الآخرة وجلب المنافع فى الحياة الدنيا، بمعنى آخر الفصل بين الكنيسة والدولة أى العلمانية. وقد ساهم بدعوته هذه فى إخماد نيران الحرب الأهلية التى اشتعلت فى أرجاء أوروبا لأسباب دينية. وإذا أردنا أن نبحث عن معنى التنوير لدى فولتير والفلاسفة الفرنسيين يمكن أن نصفه بأنه تخلص الشعب من الخرافة وإتاحة المعرفة للجميع. وإذا أردنا أن نعرف معنى التنوير عند الفيلسوف الألمانى كانط، وجدناه يعبر عنه بطريقة واضحة ومختصرة: «فلتكن لديك الشجاعة لاستخدام عقلك بنفسك». وهو يعنى أن على الإنسان أن يفكر بحرية. والخطاب هنا موجه للفرد وليس للمجتمع أو الدولة كما فعل التنويريون السابقون. ولقد شاع هذا التعريف وانتشر نظراً لبساطته الظاهرة. ولكننا لو حاولنا أن نفهم مقصده بالضبط لصادفتنا صعوبات جمة. فما معنى أن يستخدم الإنسان عقله بنفسه، ولماذا يحتاج الأمر إلى شجاعة؟. لو نظرنا فى تاريخ الفلسفة لوجدنا شعار سقراط: إعرف نفسك بنفسك. ولكن سقراط نفسه كان كثيراً ما يقول «اعرف أننى لا أعرف»، ونم تفسير ذلك على أنه نوع من التواضع فى مواجهة الإدعاء الزائف بالمعرفة. المهم أننا حيارى بين الشعارين: هل سنتوصل بأنفسنا إلى معرفة موثوقة أم لا؟.

الحالة الوحيدة التى استخدم فيها فرد عقله دون تأثير أو ضغط من الخارج كان هو حى بن يقظان كما تخيله ابن طفيل فى قصته. فقد نشأ وشب وحده على جزيرة، وعرف من خلال التجربة والتأمل قوانين الطبيعة ومفاهيم الميتافيزيقا. وحتى وإن كان حى بن يقظان شخصية أدبية لا وجود واقعى لها فإنه يصعب أن نتصور كيف استطاع الوصول إلى كل هذه المعرفة دون استخدام اللغة. وديكارت يحكى فى كتابه المقال عن المنهج كيف أنه تلقى معارف وأفكارا من أبويه ومن معلميه ومن رجال الدين وهو يكن لهم جميعا كل التقدير والاحترام، ولكن لا يستطيع أن يقول عن فكرة ما إنها حقيقية لأن سمعها من فلان أو قرأها عند فلان. وقرر أن يبدأ التفكير من الصفر لكى يصل بشكل مستقل إلى الحقائق. ولكن هل يمكن لإنسان بالغ أن يبدأ من الصفر؟ جاءت نظريات حديثة لتزيد من صعوبة تصور التفكير بحرية. فكارل ماركس يرى أن أفكار كل إنسان رهينة بوضعه الطبقى الذى يمثل بالنسبة له منظوراً يرى من خلاله العالم توهو أمر يتم بصورة لا إرادية. أما فرويد فقد ذهب أبعد من ذلك، فهو يرى أن مايقدمه لنا وعينا على أنه حقيقة ما هو إلا قناع خادع بالنسبة لنا. فعلى سبيل المثال لو سألنا شاباً لماذا اختار أن يخطب هذه الفتاة بالذات فسيسرد لنا صادقاً مجموعة من الأسباب. لكنها لا علاقة لها بالدوافع الحقيقية.

وحتى كانط نفسه أدرك المفارقة الكامنة فى موضوع التفكير بحرية. فالإنسان غير المتعلم لا يمكنه أن يستخدم عقله بنفسه، ولكن من جانب آخر لا يمكن أن نعلّم الناس كيف يكونون أحراراً، لأن التعليم توجيه، والحرية تصرف نابع من إرادة مستقلة. ولكى نفهم مقصد كانط من معنى التفكير بحرية، علينا أن نميز بين حالتين للفرد وحالتين للمجتمع، بالنسبة للفرد الحالة الأولى هى أن يفكر الأفراد من خلال أوصياء على عقولهم. فالفرد غير الناضج ينتظر دائماً أوامر من الآخرين. والغريب أن هذا الوضع لا يسبب لهم أى إزعاج، بل على العكس هم يشعرون بالسعادة فى اعتمادهم على الآخرين، وفى أن يفكر البعض بالنيابة عنهم ويقومون بتوجيههم. أما الفرد الناضج فهو الذى يقرر لنفسه ما ينبغى عليه فعله دون وصاية من أحد. وهو أمر يحتاج إلى ثقة فى الذات واعتداد بالعقل. ومن هنا نفهم هذا الأمر من جانب كانط: «كن شجاعاً».

وهكذا يمكن بالفعل أن يكون تفكيرنا متأثرا بوضعنا الطبقى، ويمكن لخبرات الطفولة أن تتحكم فى اختياراتنا، كما أن الإحباطات قد تدفعنا إلى اللجوء إلى تبريرات عقلية لنتحمل الحياة. كل هذه الأبعاد اللاشعورية فى الفكر، لا تنفى إمكانية أن نفكر بحرية، أى أن نتخلص من وصاية الآخرين. وبالنسبة للمجتمع يمكنه أن يسهم فى خلق المناخ الملائم فى الوصول بأفراده إلى سن الرشد العقلى من خلال ضمانه لحرية التفكير والتعبير كحق للأفراد. ولهذا كان كانط يطرح السؤال: هل نحن فى ألمانيا (أى فى نهاية القرن الثامن عشر) فى عصر تنّور، ويجيب: لا، نحن فى عصر تنوير؛ فأمامنا طريق طويل حتى يتخلص الأفراد من الوصاية التى يستمرئونها ويرتاحون إليها.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف