الأهرام
فؤاد عبد المنعم رياض
هل حقًا «الكُتْرَة» تغلِب الشجاعة؟
لفنان الشعب سيد درويش أغنية معروفة «مقولتلكش إن الكترة مصيرها يوم تغلب الشجاعة»، ورغم أنَّ هذه الأغنية تعود بنا إلى ثورة 1919 فإنَّها تُعبر اليوم عن التحدى الجذرى الذى يواجُه مصر فى الآونة الحالية. والأغنيةُ تؤكد من مطلعها أنَّ الأقلية لا تستطيع بحال من الأحوال تغيير أى موقف تقف وراءه الأغلبية. وهذا أمرٌ وإن كان يتفق مع طبيعة الأشياء فإنِّه من الجدير عدم الاستسلام لهذا المنطق، إذا كان هذا الموقف قائمًا على خطأ أو متسببًا فى ضرر. ومن ثمَّ يتعينُ كفاح الأقلية لتصحيحه مهما كانت قوة الأغلبية العددية ومهما كانت الصعوبات.

إنَّ من يُتابع مجرى الأمور فى حياة المجتمع المصرى خلال ما يربو على نصف القرن الماضى قد يُصاب بذهول لرؤية مدى توَّغل مختلف أنواع الفساد فى غيابٍ كامل للإحساس بالانتماء للوطن وما قد يُصيبه هذا الفساد من أضرار، وهذا رغم التغنى المتواصل بحب الوطن.

لقد نال جميع أهل مصر شديد الحزن والألم لما وقع من كوارث نجمت عن هطول الأمطار من دمار بالطرق العامة وسقوط للبنايات. وما زلنا نرى كذلك ما يقعُ من أضرار بالغة فى كل مرافق الأحياء بالمدن والقرى نتيجةَ للفساد الإجرامى لبعض المسئولين، وبمشاركة مواطنين عديمى الضمير آثروا الإفادة من هذا الفساد بدلًا من من الوقوف ضده.

وقد لَمَسَ الجميع فى الآونة الأخيرة هِمةً صادقة للقائمين على شئون الدولة فى ملاحقة أهل الفساد دون تفرقة بين صغير وصاحب نفوذ سياسى أو مالي. بيد أنَّ السؤال يثور حول مدى كفاية هذا الجهد الكبير للقضاء على هذا السرطان الذى ينهش فى جسد الوطن. فالأمر يتطلبُ بداءة التعرف على مرتكبى الفساد المتوغلين خلسة فى كل مناحى الحياة بمصر. ولن يتسنى لسلطات الدولة القيام بتلك المهمة وحدها دون مشاركة مختلف طوائف المجتمع. ولا تخفى صعوبة هذا الأمر إذ قد استقر فى ذهن المواطنين استحالة قضاء حاجاتهم الضرورية دون الرضوخ لمطالب أهل الفساد غير المشروعة والاستجابة لابتزازهم. ولا شك أنَّ حصول الدولة على هذه المشاركة من جانب المواطنين يكمن فى تقديمها البديل اللازم لقضاء المواطن مصالحه دون بلادة أو مهانة من القائمين بتلك الخدمات.

إنَّ الملاحقة الجنائية والعقاب الرادع هو سلاحٌ لا غنى عنه فى مكافة الفساد. غير أنَّه من الثابت اليوم أنَّ الخوف من العقاب لا يحول وحده دون ارتكاب الفعل الإجرامى ذلك أنَّ مرتكب أى فعل إجرامى يأمل فى الإفلات بجرمه من الملاحقة والعقاب. والأمثلة الشهيرة على ذلك ما يرويه التاريخ من أنَّ القانون الإنجليزى كان يقضى فى عهود سابقة بتوقيع عقوبة الإعدام على من يرتكب جريمة السرقة مع تنفيذ هذه العقوبة فى ميدان عام ردعًا لمن تسول له نفسه ارتكاب هذا الفعل. ومن الطريف أنَّ العكس كان يحدث إذ كانت جرائم السرقة تتضاعف فى يوم تنفيذ الحكم.

ولعل من أخطر أنواع الفساد ما نلمسه حاليًا بشكل جلى فى محليات مصر وما يمكن أن يؤدى إليه ذلك من ضرر بالغ من الناحية السياسية على صالح الوطن, إن لم يكن على كيانه ذاته. فقد أدت رهبة المواطن البسيط فى أنحاء ريف مصر كافة إزاء سلطان ذوى النفوذ المحلى إلى الطاعة العمياء، وفى ذلك ما يؤدى إلى نجاح العديد من أهل الفساد وعديمى الكفاءة فى انتخابات المجالس المحلية التى تمثل الأرضية الحقيقية للوطن. ذلك أنَّ المحليات هى الخطوة الأولى التى يصل من خلالها من يسعون للوصول إلى البرلمان، ومن ثمَّ يملكون مقاليد التشريع الذى ينظم حياة المجتمع ويشكله. لذلك يتعين - وانتخابات المحليات على الأبواب - فرض رقابة شديدة تحول دون تقدم كل من تحوم حوله قرائن جادة من فساد، وكذلك توعية الجمهور قدر المستطاع بالآثار الضارة على الوطن, وعليهم عدم انتخاب من يعلمون فساده مهما كانت سلطته، وكذلك تأمينهم ضد ما يخشونه من تداعيات اختياراتهم على حياتهم ومصالحهم.

وغنى عن البيان أنَّ مرفق التعليم من أهم مؤسسات الدولة التى يجدر المسارعة بمحاربة الفساد فى مجالها، فهو المرفق الذى يحكم مستقبل الوطن مُمثلا فى الأجيال القادمة. ولاشك أن الدولة قادرة بما تملك من سلطة مادية ومعنوية على تقديم كل ما يلزم للإصلاح المادى والمعنوى والعلمي، كبناء دور تعليم ذات طابع آدمى ، وكذلك رعاية رجال التعليم من الناحية المالية، وفرض الرقابة الجادة لمنع تهربهم من أداء واجبات وظيفتهم. كما أنَّ الدولة تملك القدرة على إدخال أحدث برامج التعليم ووضع حد لتحكم أهل الظلام فى هذه البرامج. وغنى عن البيان وجوب إعادة النظر فى مدى قدرة القائمين حاليًا بالتعليم، وإعداد المعلمين الذين سيُسند إليهم تنفيذ طرق التعليم الحديثة ومضامينه فى العصر الحالى الذى ما زلنا غرباء عنه.

وبديهى أن الوصول بالتعليم إلى المستوى الجدير بحضارة مصر لن يتحقق دون مشاركة جادة من أسر الطلاب أنفسهم. وذلك يتطلب الارتقاء الحضارى بالأسر نفسها لتستوعب كل ما هو حديث مهما تعارض مع الموروثات القديمة حتى لا تقف تلك الأخيرة عقبة فى سبيل النهوض بالأجيال القادمة. بل إن الأمر يتخطى دور الأسرة ليمتد إلى المجتمع بأسره الذى يعيش فيه أبناء مصر. ولا شك أن أهم أداة فى نشر الوعى والنهوض الفكرى بالمجتمع يقع على عاتق الإعلام بمختلف وسائله، إذ هو فى واقع الأمر المدرسة الأولى للشعب بأسره، وسيتوقف نجاح الإعلام فى مهمته على مدى سماح سلطات الدولة له بذلك، وفتح الباب على مصراعيه لقادة الفكر لأداء مهمتهم فى نشر الوعى والتصدى لقوى الظلام التى مازالت تسيطر على عقول البسطاء وأشباه المثقفين.

ولعل روح فنان الشعب سيد درويش تعود إلينا لتؤكد عكس مقولته السابقة وأنَّ «الشجاعة مصيرها يوم تغلب القوة».

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف