الأهرام
أنور عبد اللطيف
حوار فى الآخرة بين أصحاب الدولة والمعالى
ما من شك فى أن اكثر رجال الحكم والسياسة فى مصر قد خالجتهم يوما أعظم مشاعر التضحية والبطولة والرحمة، ولكن كم من الوقت عاشت هذه المشاعر فى قلوبهم فلم يرضخوا لمغريات المنصب، ولا لشهوات النفس، ولم يجرفهم فى تيار الرفاهية والسلطة والأبهة، هذا التساؤل طرحه توفيق الحكيم عن رجال ماقبل ثورة 23 يوليو، التى تمر 66 عاما على قيامها بعد أيام، كانت أفكار الحكيم أحد محركات تحولاتها الخطيرة، أهم هذه الأعمال مسرحية «شجرة الحكم»، تعرض فيها الحكيم بالنقد للنظام البرلمانى المصرى الذى أفرز مجموعة من أصحاب الدولة والمعالى والنفوذ البعيدين عن الكفاءة، وهى تنتمى إلى المسرح العقلي، كتبها ضمن سلسلة مقالات سياسية عام 1938، دارت أحداثها كما تخيل الأديب الكبير فى (الدار الآخرة)، وهذه القراءة من صفحة الحكيم فى ذاكرتنا الوطنية بمناسبة مرور 120 سنة على ميلاده (9أكتوبر 1898ـ 26 يوليو1987)، وستبقى طزاجة المسرحية لقارئ اليوم دليلا على صلاحية الأدب الخالد لكشف المستور وبناء الوعى مهما تحولت الأزمان والعصور. ومن «شجرة الحكم» اقتطف حوارا (فى الآخرة) بين صاحب الدولة وصاحب المعالى وقد تجردا من المناصب وألاعيب السياسة والسلطة.

يبدأ المشهد بصاحب الدولة وهو يتمشى متأبطا ذراعى حوريتين جميلتين باسما مرحا على كورنيش نهر الكوثر، فتسأله حورية مارأيك فى الجنة؟ فيجيبها صاحب الدولة: بديعة كنسائها، فتعقب باسمة: مثل كورنيش الإسكندرية، وكأنها تذكره بأيام السلطة والعربدة، ثم تعود وتسأله: ماذا كنت تعمل فى الدنيا: فيجيبها بحرقة: كنت رئيسا للوزراء وصاحب أقوى الأحزاب الذى بنيته فى أقل من شهر، فتتدخل الحورية الثانية :حزب.. ماهو الحزب، هل هو فيلا أم عمارة؟، فتجيبها الحورية الأولي: كلا هو عشة فى رأس البر، هى وحدها التى تبنى فى أقل من شهر، فتسأل الحورية الثانية وما معنى رئيس الوزراء؟ فترد الأولي: هو رئيس الحكومة الآمر الناهى يعين ويفصل، ويحيل إلى المعاش، ويتصرف فى الميزانية والمصاريف السرية، ويتزاحم حوله المحاسيب والمقربون والعسس والمخبرون وتتقدم سيارته الموتوسيكلات والكونستبلات، واذا أقيل او استقال تخاطفته مجالس إدارات البنوك والشركات!. فيغمض عينيه صاحب الدولة وكأنه يستعيد حلما، ويقول: آآآه.. لا تذكرينى بالدنيا..كانت حقيقة حلوة!

الحورية الثانية (تلتفت خلفها وتصيح) صه صه!.. من هذا الرجل الأنيق القادم بين حوريتين؟

يدنو الرجل الأنيق ويترك حوريتيه ويفتح فاه دهشا: مستحيل دولتك فى الجنة، هذا غير معقول!، فيترك صاحب الدولة حوريتيه أيضا ويسأل صاحب المعالي: ومعاليك هنا، ويتعانقان، فيسأله صاحب المعالى كيف أدخلوك إلى هنا؟ فيجيب: مثل كل المؤمنين الصالحين!، فيرد صاحب المعالى: بعد أن كان من دنياك ماكان!، فيستغرب صاحب الدولة: أستطيع أن أدخل فى أى مكان!، وأنت يا صاحب المعالى لن أسألك كيف دخلت ولكن ألا يكون دخولنا الجنة وقع على طريقة دخولنا البرلمان؟ـ فيرد الآخر ولكن انتخابات أهل الجنة لابد أن تكون مضبوطة، لكنألا يمكن أن نكون قد صنعنا معروفا؟ فيجيب صاحب المعالى: لا أتذكر!

ـ فيرد صاحب الدولة: ألم أطعم فقيرا وأنشئ مطعما للفقراء، وأنت ما حسناتك؟ فيجيب بفخر بنيت عمارة فاخرة شاهقة على أغلى بقعة فى القاهرة!

ـ فيرد صاحب الدولة ساخرا: أتسمى هذه حسنة، فيجيب صاحب المعالى لقد عملت بمبدأ (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا...)، وأين الشطر الآخر (واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا)؟ ـ فيجيبه صاحب المعالى لقد عملت ما قدرت عليه!

ويمضى الحوار بينهما شيقا ساخرا إلى أن يتمنى صاحب الدولة أن تكون هنا فى الجنة شجرة الحكم فما من فاكهة ألذ من فاكهتها، فيرد صاحب المعالي: لأنه لا يوجد هنا ظالم ومظلوم! لو وجدت هنا لتكالب على ثمارها اصحاب الدولة والمعالى من عهد نوح، فيواصل صاحب الدولة: فاكهة الحكم كما ذقناها فى مصر لم يكن لها شوك ولا نوى عكس أوروبا، حيث الرأى العام شوكة دائمة ومتيقظة يحيط فاكهة الحكم بأسلاك شائكة من المسئولية!

ـ كفى يا دولة الباشا إنك تسيل لعابى بالنوع المصرى السائغ اللذيذ، فيتحسر صاحب الدولة إن لذة الوزارة قد قلت منذ دخل النظام البرلمانى وأصبح من السهل أن تكون وزيرا بأصوات الجماهير التى يجمعها المقاولون بالوعود والنقود كما يجمعون أنفار الدودة، وينتهى الموسم، فيصيح الأكثر مالا والأقوى والأمهر دجلا صيحة الانتصار!. فيعقب صاحب المعالي: صحيح ولكن لا تنس أنك جئت بهذه الطريقة يا معالى الباشا! فيرد: أعترف بذلك، وهل كنت تريد منى أن أترك الطريق الجديد السهل المختصر للوصول إلى الحكم!.

تتهامس الحوريات الأربع وهن يسمعن ما يدور فتسأل حورية: كل حديثهما فى الجنة عن السوق والموسم والوصول للحكم والسلطة والظفر بالغنيمة، ماذا كان عمل هؤلاء فى الدنيا؟.

فتجيب حورية أخرى: وزراء!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف