خالد عكاشة
«هيومن رايتس ووتش».. وأبعد من نشر تقرير كاذب (2)
التقرير الذى أثار هذا الحديث هو الأخير الصادر عن المنظمة الشهيرة، والذى تتناول فيه عملية هدم البيوت وتجريف المزارع من قبل قوات مكافحة الإرهاب فى شمال سيناء. ويصف هذه العملية بأنها تحمل انتهاكاً لحقوق المواطنين، رغم اعتراف المنظمة وتسليمها بأن هناك على تلك الأرض تهديداً إرهابياً، يقوم به بالفعل «المسلح» تنظيم أعلن ولاءه لتنظيم «داعش» منذ العام 2015م.
كما ذكرنا سابقاً؛ ليس هذا بالتقرير الأول لـ«هيومن رايتس ووتش» فيما يخص سيناء وما يجرى فيها، ولن يكون الأخير بالطبع. لذلك، مصرياً، كيف بدا التعامل مع سردية بدأت منذ سبتمبر 2015، وامتدت حتى العام 2018، تاريخ نشر التقرير الأخير. لم يبدُ أن هناك رداً مصرياً مدروساً اشتبك مع ما تطرحه المنظمة، رغم أن المنظمة مبكراً أول من تبنى إطلاق مصطلح «التمرد فى سيناء»، كما جاء نصاً تحت عنوان «خلفية» بمساحة (10 صفحات)، فى تقرير «ابحثوا عن وطن آخر.. عمليات الإخلاء القسرية فى رفح المصرية». التقرير (70 صفحة) وصفته فى المقال السابق بـ«الأخطر»، حيث ذهب للربط بين نشاط الإرهاب فى 2004 «تنظيم التوحيد والجهاد»، وبين ما جرى فيما بعد 2011، على يد تنظيمات أخرى تماماً. ما دفع المنظمة لهذا البعد التاريخى، جاء بغرض صك توصيف «التمرد»، بديلاً للأكثر منطقية وهو «التهديد الإرهابى» أو «النشاط الإرهابى».
هذا نموذج واحد فقط لجرس إنذار دق مبكراً، وبنفس التقرير وما تلاه من تقارير عشرات الأجراس، التى أرى أننا لم نُعِرها التفاتاً أو اهتماماً. رغم أن هذا المثال، على وجه الخصوص، يعد محطة مفصلية فى تناول ما يجرى بسيناء، وأيضاً بعد أن غزت الكلمة «التمرد» العديد من تحليلات خبراء الملف الإرهابى، على المستوى الدولى بالخصوص. ففى توصيف المنطقة الجغرافى «أقصى الشمال الشرقى» للحدود المصرية، والطبيعة السكانية المعروفة لأهلها «القبائل البدوية»، والامتداد الزمنى للتهديد وأعمال المكافحة «5 سنوات»، جميعها تجعل تمرير هذا المصطلح أكثر يسراً ومنطقية.
وهنا لا يقف الأمر عند حد التمرير «المزيف» لطبيعة المشهد، بل هو يساهم بقوة فى التغطية على حقيقة التهديد، وبتفاصيل تركيزه على تلك المساحة من الأرض المصرية، هذا بحد ذاته «مستهدف» مهم لتزييف التوصيف، فهو فى جانب منه يحاول نزع شرعية استخدام القوة المسلحة الشرعية للدولة لمقاومة التهديد باعتباره قد انقلب إلى تعبير «عنيف» عن تمرد سكانى، لأسباب سياسية أو اجتماعية أو عرقية. وفى جانب آخر يمارس تعمية «محترفة» على حقيقة الداعمين للتنظيمات الإرهابية بالمال والسلاح والمقاتلين. هذا أيضاً يجعل تحرك القوات المسلحة المصرية دفاعاً عن أمنها القومى محل جدل «قانونى»، أو خاضعاً لوجهات النظر، فإخفاء أو تغييب الداعمين، رغم أنهم معلومون على جبهات دول أخرى، بل وموضع إدانة دولية فيها، أو تحت الانكشاف الذى لا يسمح فيه بما أمكن تداوله بشأن سيناء!
لا أتصور أن المساحة هنا كافية كى نقوم بعملية تفنيد لأغراض مثل تلك التقارير الصادرة من «هيومن رايتس ووتش»، أو تصحيح ما ذهبت إليه فى عرضها للأوضاع بسيناء، لكن ربما يكون الأكثر منطقية أن نشير إلى مكامن الخطر، الذى نراه يستوجب التفاعل معه، وعدم الاكتفاء بنفى ما يمكن أن يكون قد جاء بتلك التقارير. أشرنا فى مقالنا السابق إلى أن عملية «التراكم» التى تقوم بها المنظمة ظاهرة للعيان. وهى تثبت فى تقارير متتابعة معادلة طرفها الأول الدولة بقواتها المسلحة وأجهزتها الأمنية، فى مواجهة طرف آخر يمثل السكان «المحليين». رغم مخادعة هذا التوصيف الأخير، مثل الكثير من المصطلحات التى تلح ليس لتمريرها فقط، بل لتثبيتها فى أساسيات تحليل وتوثيق المشهد.
لذلك جاءت التقارير، بداية، تتحدث عن الإخلاء القسرى ومن ثم الدفع للبحث عن «وطن آخر»، وبعدها فى تقريرين لا يفصل بينهما سوى شهرين، الأول يتحدث عن أزمة الأوضاع المعيشية لـ«السكان» جراء عملية سيناء 2018، والثانى عن هدم مساكن وتدمير مزارع هؤلاء «المحليين». وفى هذا الأخير؛ كشفت المنظمة عن آلية توثيق لافتة وتدفع للتساؤل، هى استنادها وفق ما أوردته كتابة وصوراً على «قمر صناعى» تجارى، مدها بصور جوية للعمليات التى تدعى أنها جرت فى المنطقة الحدودية، وأخرى بمحيط مطار العريش. والتساؤل من جانبنا، فى شق منه لأهل الاختصاص عن إمكانية استئجار «قمر صناعى» تجارى للقيام بتلك المهمة، وإمداد المنظمة الحقوقية بالصور التى قامت بنشرها فى تقريرها. والشق الآخر هو مساحة صدقية كون هذا القمر تجارياً بالفعل، أم أن الأمر أبعد من ذلك بالنظر إلى دقة تلك المنطقة الحدودية، التى تستوجب عدم استبعاد فرضية أن يكون القمر الصناعى عسكرياً أو استخباراتياً بصورة أو بأخرى، ووصلت من خلاله الصور إلى المنظمة!
لم تأتِ الصور بجديد، أو يمكن اعتبارها لم تكشف جديداً عما هو معلن من قبل القوات المسلحة المصرية، فإخلاء الشريط الحدودى من أجل إقامة «منطقة آمنة» بعمق (5 كم)، أو محيط مطار العريش، كلاهما يسير وفق القواعد القانونية، ووفق ذات الحالة من الإعلان. لذلك تظل الخطورة ليس فيما أتت به الصور، إنما تمثلها الآلية بحد ذاتها، وهى دعم تقريرها بصور جوية لتكون بجوار الفوتوغرافية، والمطعمة بالشهادات السكانية، على حد زعمها. هى النقلة النوعية التى تحقق لها «التراكم» المستهدف، وهى اللغة والصورة التى يسهل ترويجها، حيث هكذا يفهمها المراقبون والرأى العام العالمى.
فى النهاية، هناك «مطب» لالتباس غريب لا أدرى كيف هو غير واضح للعيان، هو أن تلك التقارير بالأساس تستهدف المجتمع الدولى، بينما نحن ما زلنا نضع جل اهتمامنا بملاحقتها فى مجتمعنا المحلى! وفى هذا يظل الحديث موصولاً الأسبوع المقبل عن كيف ومن يقوم بإزالة هذا الالتباس، بمشيئة الله.
هنا لا يقف الأمر عند حد التمرير «المزيف» لطبيعة المشهد، بل هو يساهم بقوة فى التغطية على حقيقة التهديد، وبتفاصيل تركيزه على تلك المساحة من الأرض المصرية، هذا بحد ذاته «مستهدف» مهم لتزييف التوصيف، فهو فى جانب منه يحاول نزع شرعية استخدام القوة المسلحة الشرعية للدولة لمقاومة التهديد باعتباره قد انقلب إلى تعبير «عنيف» عن تمرد سكانى، لأسباب سياسية أو اجتماعية أو عرقية.