ماجد حبته
ضحايا الحروب الأمريكية.. ألف.. آلاف.. أم ملايين؟!
هذا درس في كيفية طمس الحقائق و«الغلوشة» عليها باختلاق خلاف حول أكاذيب. أو محاولة لغسل السمعة يشارك فيها الكونجرس الأمريكي ووزارة الدفاع «البنتاجون» ومنظمات توصف بأنها «إنسانية»، وتدعي اهتمامها بحقوق الإنسان. ولا أرى تفسيرًا أكثر منطقية أو احتمالًا أرجح لمحاولة إثارة جدل حول جريمة صغرى، لا يمكن مقارنتها بجرائم أكبر بكثير، لم تتوقف الولايات المتحدة عن ارتكابها قبل أن تصبح دولة، أو قبل ما يوصف بـ«يوم الاستقلال».
بدأ الدرس، المثال، أو المحاولة بإعلان الكونجرس، الأسبوع الماضي، أن القوات الأمريكية، وقوات التحالف، قتلت ألف مدني تقريبًا خلال حربها ضد تنظيم داعش التي بدأت عام ٢٠١٤، فاعترضت منظمات أمريكية، توصف بأنها حقوقية أو إنسانية، وقالت إن عدد الضحايا المدنيين يصل إلى ٦ آلاف. ثم نشرت جريدة «واشنطن بوست»، الأحد، تقريرًا نقلت فيه عن خبراء أن وزارة الدفاع الأمريكية استغلت «عدم وجود نظام دقيق لإحصاء عدد الوفيات»، وقامت بتخفيض عدد المدنيين «غير المقاتلين» الذين قتلتهم الغارات الجوية، والأنشطة العسكرية الأخرى. ثم ذكرت وكالة الأنباء الفرنسية «أ ف ب» أن الولايات المتحدة «لا تعترف بسقوط ضحايا مدنيين في الغارات التي تنفذها طائراتها إلا بعد تحقيقات مطولة». وأنها، كبقية الدول في التحالف العسكري، تقوم بالتقليل من عدد الضحايا المدنيين الذين يسقطون من جراء ضربات التحالف ضد الإرهابيين في سوريا والعراق.
وزارة الدفاع الأمريكية قالت إن التحالف راجع ١٥٩ تقريرًا أصدرتها منظمات وجماعات مختلفة عن سقوط ضحايا مدنيين منذ أن بدأت الحرب ضد «داعش» سنة ٢٠١٤، وأن تلك المراجعة انتهت إلى أن ١٤٩ تقريرًا منها «غير موثوق بها»، أما التقارير العشرة المتبقية، فقال التحالف إن خمسة منها نشرت أرقامًا مكررة. وعلى ذلك، ردت دافني إيفياتار، مديرة «منظمة العفو الدولية»، بأن وزارة الدفاع الأمريكية تجاهلت غالبية الأرقام الخاصة بالقتلى المدنيين الصادرة عن جهات مختلفة، ورأتها غير موثوق بها، دون أن تتحقق منها أو تفتح تحقيقًا بشأنها. وبالتالي، من المرجح أن أعداد وزارة الدفاع أقل كثيرًا من أعداد القتلى المدنيين الفعلية. بينما قالت منظمة الحروب الجوية، «إيرورز»، التي تركز على قتلى وضحايا الحروب، إن خلال العام الماضي فقط، سقط ٦ آلاف مدني تقريبًا، على أيدي البنتاجون والقوات الحليفة.
على الخط، دخلت جريدة «واشنطن بوست» فذكرت أن القوات الأمريكية والحليفة أجرت أكثر من ١٠ آلاف غارة ضد «داعش» خلال ٢٠١٧، وإن هذه «عملية جوية ضخمة شكلت تحديًا للمراقبين الأمريكيين ولقدرات المخابرات الأمريكية». وطبقًا لما ذكرته الجريدة فإن بيانات صدرت عن البنتاجون ذكرت مرة إن ٤٥ مدنيًا لقوا حتفهم بين نوفمبر ٢٠١٦ ومارس ٢٠١٧، بينما أعلنت بيانات أخرى مقتل ٢٦ مدنيًا في ٣ ضربات منفصلة في مارس عام ٢٠١٧، ثم تم الإعلان، منتصف العام، أن ٨٠ مدنيًا سقطوا بين سنة ٢٠١٤ وسنة ٢٠١٧. وأشارت «واشنطن بوست» إلى أن تلك البيانات تكررت فيها عبارة «وما زلنا نتحقق من عدد الضحايا».
بحدوث الجدل، يكتمل الدرس وتكون الغلوشة على الحقائق قد حدثت بذلك الخلاف المختلق حول أكاذيب. والخلاف مختلق لأن الذين أوجعتهم إنسانيتهم وحاولوا إثبات أن عدد الضحايا المدنيين ستة آلاف، وليس ألفًا فقط، تجاهلوا «ويتجاهلون» سلسلة طويلة من جرائم أكبر بكثير، لم تتوقف الولايات المتحدة عن ارتكابها قبل أن تصبح دولة، أو قبل ما يوصف بـ«يوم الاستقلال». تجاهلوا «ويتجاهلون»، مثلًا المذابح التي راح ضحيتها حوالي ١٨ مليون هندي بأنواع مختلفة من الإبادات. ولا مانع هنا من أن ألفت نظرك، مرة جديدة، إلى كتاب «فتح أمريكا.. مسألة الآخر»، للكاتب الفرنسي بلغاري الأصل، تزفيتان تودوروف، الذي أهدى الكتاب «إلى ذكرى امرأة من المايا التهمتها الكلاب»، بينما أهداه مترجمه المرموق بشير السباعي إلى كل أولئك الذين يؤمنون بأن البشرية ليست مدعوة إلى سداد فاتورة «خطيئة أصلية» لم ترتكبها.
الذين توجعهم إنسانيتهم بشكل انتقائي، والذين لعنوا هتلر لأنه ارتكب بعض الجرائم بدعوى تفوق الجنس الآري، أغمضوا أعينهم عن ضحايا قنبلتين نوويتين، كما حاولوا إغماض أعينهم عن جرائم كثيرة حدثت ومستمرة، منها مثلًا قيام الولايات المتحدة خلال السنوات الـ١٦ الماضية، بقتل ما يقترب من مليون و٢٠٠ ألف في حروب خارج أرضها: ١١١ ألفًا في أفغانستان، ٢٢٢ ألفًا في العراق، ٦٢ ألفًا في باكستان و٨٠٠ ألف قتيل راحوا ضحايا النتائج غير المباشرة لتلك الحروب. والأرقام من تقرير «مشروع تكاليف الحرب»، الصادر عن معهد «واطسون» للدراسات الدولية بجامعة «براون» الأمريكية، ولم يكن هدفه حصر ضحايا الحروب بل حساب التكاليف، التي ذكر أنها ٥ تريليونات و٦٠٠ مليار دولار.
الأرقام لم تشمل ضحايا الحروب الأمريكية في سوريا وليبيا واليمن وفي دول أخرى تلهو فيها وتلعب قوات أمريكية أو قوات وتنظيمات وجماعات تحركها المخابرات الأمريكية، بما يعني أنك قد تضيف إلى ما سبق مئات الآلاف، بالإضافة إلى ضحايا للعمليات الإرهابية، خلال السنوات الخمس الماضية. والأرقام ستزيد كثيرًا لو وضعنا في الحسبان اتهام وزارة الدفاع الروسية، للقوات الأمريكية في سوريا بـ«التواطؤ» مع «داعش»، وتغطية انسحاب قوات التنظيم الإرهابي. غير أنك قد تفقد النطق لو عرفت أن استطلاعات الرأي تكاد تتفق على أن غالبية الأمريكيين يعتقدون أن هذه الحروب كانت رد فعل على أحداث الحادي عشر من سبتمبر. بينما يقول الواقع إن العراق، ليبيا، سوريا، اليمن، و... و... و... وحتى أفغانستان لم يكن لها أي علاقة بما جرى في ١١ سبتمبر. ومعنى ذلك أن الشعب الأمريكي الصديق في حاجة ماسة إلى من يعيد تشكيل وعيه، أو يرده إليه!.
وتبقى الإشارة إلى أن أكثر الاستثمارات ربحية في العالم، هو الاستثمار الأمريكي في الحرب. وهو استثمار ضخم يديره المجمع العسكري الصناعي والمؤسسات الأمنية والمخابراتية والشركات الكبرى المتحالفة، جرى فيه «ويجري» استخدام عملاء أو وكلاء، كـ«مجنون إسطنبول» و«العائلة الضالة» التي تحكم قطر، بالوكالة، وآخرين يحسبهم «الطيبون» أصحاب قضية!.