المصريون
جمال سلطان
في ضرورة أن تثبت الدولة للمواطن أنها دولة
الواقعة التي جرت أمس في الإفطار الذي نظمته الحركة المدنية في النادي السويسري ، بدعوة من الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي الذي يرأسه الناشط والمثقف اليساري المعروف فريد هران ، أثارت استغرابا واسعا ، داخل مصر وخارجها ، بقدر ما دقت ناقوس الخطر من الأحوال التي وصلت إليها مصر الآن ، أن يرسل "أحدهم" مجموعة من البلطجية ، قيل أنهم حوالي ثلاثين بلطجيا ، لكي يهجموا على حفل صغير معظم الحاضرين فيه من شيوخ السياسة والأدب والصحافة ، يصل سن بعضهم إلى السبعين عاما ، يتأهبون لتناول طعام الإفطار في رمضان ، وعقب الآذان مباشرة وقبل أن يتناول أحدهم طعامه يهجم "الأشاوس" على الموائد المنصوبة فيبعثرونها ويطاردون الحاضرين ويضربونهم ويشجون رأس زهران ، وهم يسبون الحاضرين بأبشع الألفاظ مع الشتائم التقليدية التي تتهمهم بالخيانة والعمالة ، قبل أن ينسحبوا بهدوء من مكان الموقعة ، هذا المشهد الكابوسي لا يمكن تصور أن يحدث في "دولة" ، كما أن ردود الفعل الرسمية ، شديدة البرود بعدها ، بل التجاهل شبه التام لما حدث ، رغم بشاعته ، يعطي الانطباع بأن أحدا لم يعد معنيا حتى بمحاولة إثبات حضور الدولة بأي صورة من الصور .
تخيل معي لو أن هذا الهجوم من البلطجية حدث على حفل إفطار أقامه مجموعة من أنصار الرئيس ومؤيديه أو حزب موالي له ، ماذا تتوقع من سلوك الجهاز الأمني وجهات التحقيق ، لا يحتاج الأمر إلى شرح ، وإنما يحتاج فقط إلى مقارنة بالصمت الغريب من الدولة وأجهزتها وجهات التحقيق فيها تجاه ما حدث أمس في النادي السويسري ، هذا سلوك خطير للغاية ، ويبعث برسائل شديدة السلبية إلى الناس ، بأنهم لا يعيشون في دولة ، حتى وإن كان السيسي نفسه قال قبل ذلك أننا لم نصل إلى وضع "الدولة" وأننا "شبه دولة" ، فهذا كلام انفعالي من الرئيس ولا يمكن حمله على المعنى المباشر والدقيق له ، فالناس تحتاج دائما إلى أن تشعر أنها تتعامل مع قانون ونظام ومؤسسات وأمن ، ولا تتعامل مع منطق الفتوات والبطلجية في الحارات الشعبية ، بقوانينهم وحساباتهم وأدواتهم ورعونتهم .
مثل هذه الحوادث لم تقع أبدا في زمن مبارك إلا في سنواته الأخيرة ، عندما تسلل الخوف إلى مبارك ونظامه ، وتعقدت حسابات الواقع أمامه مع شهوته لتوريث ابنه السلطة ، وبدأت أجهزته ترتبك ، لدرجة أن تعتدي بالضرب على أسماء بحجم الراحل عبد الوهاب المسيري والكاتب الكبير جمال بدوي ، وغيرهم ، وهم من كبار السن فضلا عن رمزيتهم الثقافية في مصر والخارج ، أو أن تخطف الأجهزة صحفيين من أمام نقابتهم وتلقيهم عرايا في بعض الطرق الصحراوية المحيطة بالقاهرة تأديبا لهم وترويعا ، هذه السلوكيات الرعناء كانت مؤشرا على ارتباك نظام مبارك وخوفه ، وعلى أن فكرة "الدولة" بدأت تتراجع ، ليفرض النظام في الحياة السياسية أساليب جديدة للتعامل مع المعارضة ، وهو ما تسبب في سلسلة من التداعيات انتهت إلى تهييج الشارع وانتشار الغضب وإحساس الناس أن الدولة غابت وجرأ الأجهزة على استباحة القانون ، وهو ما انتهى إلى ثورة يناير التي أسقطت مبارك وبرلمانه وحزبه وحكومته وجهازه الأمني .
محاولة تصدير الأذرع الإعلامية للتشويش على ما حدث ، أو ترويج روايات سطحية وساذجة عما حدث لن تفيد ، ويكفي لأي مرصد سياسي رسمي أن يتابع ما ينشر حتى الآن على صفحات التواصل بعد الواقعة ، وشهادات شيوخ الأدب والفكر الحاضرين، وعن ربط التعليقات الغاضبة للحادثة بالإفراج عن "صبري نخنوخ" أكبر بلطجي في مصر بعفو رئاسي قبل أسبوعين ، لكي يدرك صانع القرار وصاحب القرار أن الرسالة خطيرة ، وأن الأمر يستدعي مراجعة على أعلى المستويات ، وتحقيقات جادة في الواقعة ، تعيد الإحساس للمواطن ، السياسي وغير السياسي ، بأن هناك دولة ، خطير جدا أن يفقد المواطن أو المعارض الإحساس بأنه يتعامل مع "دولة".
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف