الجمهورية
عبد القادر شهيب
ناصر ودرس يونيو 67
هذه الكلمات شديدة الصراحة قالها جمال عبدالناصر للوزراء في عدد من الاجتماعات للحكومة التي شكلها برئاسته بعد هزيمة يونيو 67 . عندما رفضت الجماهير تنحيه وطالبته في مظاهرات عارمة وتلقائية بالاستمرار في الحكم لكي يزيل اثار العدوان ونسترد أراضي سيناء العزيزة .. وقد سجلها في مذكراته نصا ثروت عكاشة الذي كان يتولي وزارة الثقافة وقتها .. ويقول ناصر بشجاعة في هذه الكلمات :
"لقد سقط نظامنا يوم 9 يونيو . ولا أوافق من يقول بان المظاهرات التي خرجت كانت إعرابا عن الثقة بالنظام . فنحن نبدأ بداية جديدة . ولذلك شكلت وزارة جديدة أراسها بنفسي . فطالما تكلمت مع زملائي عن ضرورة قيام معارضة منظمة داخل الاتحاد الاشتراكي . حتي جال بخاطري انشاء حزب أقلية يحصي علي الأغلبية أخطائها"
"لقد ثبت ان فشلنا راجع الي اننا مجتمع مغلق . واري انه لابد من وجود معارضة منظمة للحكومة . معارضة ليست فردية. وإذا استمر نظام الحكم علي هذه الوتيرة فسيؤدي الي عواقب وخيمة شأنها شأن ما يقع في دول امريكا اللاتينية. إذن لابد من تأمين هذا البلد بعد ان تحولت الدولة الي إمارات مستقلة. وامامنا اليوم فرصة للإصلاح فواجبنا العطاء الوفير للبلد. وأقول وداعا لنظام الشلل والنظام المقفول الذي لا يؤمن البلاد من اخطار المغامرات. فلقد ثبت لي بما لا يقبل الشك فشل تجربة تعلق النظام بشخص واحد . وان لنا ان ننشيء نظاما يجعل كل إنسان من الكبير الي الصغير يخشي المحاسبة. هناك اخطاء ارتكبها بعضكم أجازها النظام المقفول . وان عبارة سيادة القانون وردت علي لساني في الكثير من خطبي قبل ان اسمعها هنا . ومن ثم لا اعتراض لي إطلاقا علي الدعوة والمناداة بسيادة القانون . ولابد ان نرسم للناس سبل الأمان والأمن في المستقبل نظير عطائهم يوم 9 يونيو. ولذلك فلا معدل عن وجود معارضة حقيقية تتصيد الأخطاء لكم . فلا أنا ولا مجلس الامة ولا ديوان المحاسبة بوسعه تصيد أخطاءكم".
"أكرر القول بان عيب نظامنا هو انغلاقه وان النقاء الثوري الذي برز في مطلع الثورة قد خفت حدته بظهور الطبقة الجديدة التي لا يدري حد مدي طموحاتها . والسؤال الملح هو كيف نؤمن البلاد من اي نكسة داخلية بحيث لا يأتي بعدنا من يحيد بالمباديء عن مسارها . فلست قلقا علي اليوم وانما الي الغد".
"مرة اخري طالما انعدمت الرقابة والنقد سيعمل كل منا وفقا لهواه . وانا لا أستطيع الاضطلاع بهذه المهمة حتي ولو عملت اربعا وعشرين ساعة . ولذلك فلابد من قيام نظام جديد للدولة يضمن الاستمرارية . ويبطل معه اُسلوب الشلل والعصابات".
"وأقول بصراحة أني لم أعد اومن بنظام الحزب الواحد . لانه يفضي حتما الي ديكتاتورية الشلل ومراكز القوي . لابد ان يكون للبلاد نظام مفتوح لا نظام مغلق كما هو الحال حاليا . وفي هذا ما يتيح للمعارضة الحية ان تولد فلا تكون هناك ثمة شللية وإقطاعيات".
انه كلام واضح شجاع شديد الصراحة ذلك الذي قاله ناصر لوزرائه بعد هزيمة يونيو يعكس الدرس الذي استوعبه من هذه الهزيمة التي مثلت لجيلي واجيال عديدة صدمة قاسية جدا زلزلت كياننا ولم نسترد توازننا الا بعد انتصارنا فيي حرب أكتوبر التي مكنتنا من استعادة كل اراضينا المحتلة في سيناء العزيزة.
ان عبد الناصر لم يعتبر ما حدث في يونيو مجرد هزيمة عسكرية او اخفاق للقيادة العسكرية . وانما رآه اخفاقا أوسع واشمل . خاصة سياسيا . وبالتالي فان تجاوزه والتخلص من تداعياته وآثاره يحتاج لتغيير أوسع من تغيير القيادة العسكرية ومن تركيز الجهود علي اعادة بناء القوات المسلحة بشكل عملي ومتطور ومكثف حتي تكون جاهزة لخوض حرب استرداد الارض والكرامة التي كان ينتظرها علي احر من الجمر وخطط . كما يقول ثروت عكاشة ان تتم في عام 1970. وانما هذا التغيير يتعين ان يكون واسعا ويشمل منهج الحكم وطبيعة النظام السياسي ذاته . بل ومنهجه هو شخصيا في ادارة البلاد . وهو ما عبر عنه بقوله لثروت عكاشة في اخر لقاءاتهما وسجله في مذكراته . عندما أكد انه عاهد نفسه الا يعود الي سياسة الحل الوسط . وانه لن يجعل أمور الوطن السياسية تخضع لأي اعتبارات عاطفية!
غير ان المدقق لما جاء في مذكرات ثروت عكاشة الذي يعتبره المثقفون في مصر أفضل وزير للثقافة سوف يكتشف ان الارهاصات الاولي في تفكير عبدالناصر بخصوص أهمية وضرورة القيام بتغيير النهج السياسي للحكم وإدارة شئون البلاد ظهرت مبكرا جدا وقبل هزيمة يونيو بنحو خمس سنوات . وتحديدا بعد صدمة الانفصال وانتهاء الوحدة بين مصر وسوريا .... فهو ينقل عن عبدالناصر قوله في اجتماعات الحكومة ايضا في عام 67 انه لم يكن مستريحا للاوضاع القائمة بعد صدور الميثاق عام 62. واقترح علي اخوانه ترك العمل التنفيذي وتشكيل مجلس رئاسة للم شمل البلاد وأعلن استعداده لتسليم مهام رئيس الجمهورية الي هذا المجلس . وقد نال اقتراحه موافقة الجميع . وحدد موعدا يعلن فيه هذا النبأ في التليفزيون . غير ان عبدالحكيم عامر سحب موافقته لهذا الاقتراح والذي ابلغ ناصر بذلك شمس بدران الذي كان يتولي وزارة الحربية وقتها .. وربما هذا ما يفسر لنا ماسبق ان قاله ناصر حول انه عاهد نفسه بعد يونيو 67 علي عدم العودة الي الحلول الوسط وتغليب العاطفة في أمور الوطن السياسية!
ولقد حاول ناصر َالفعل ان يقوم بهذا التغيير السياسي الكبير والعميق بعد يونيو 67 . خاصة بعد ان خرج الطلبة والعمال في مظاهرات لأول مرة بعد بضعة شهور قليلة في فبراير 68 احتجاجا علي الأحكام الضعيفة لقادة الطيران الذين اتهموا بالتقصير الذي كان سببا رئيساً لكارثة يونيو 67.. فقد اتسعت مطالب المحتجين لتطالب ناصر بإجراء تغيير سياسي واسع وشامل .. واستجابة لهم اصدر ناصر بيان 30 مارس الذي تضمن ملامح هذا التغيير . ثم تم اجراء انتخابات في الاتحاد الاشتراكي . التنظيم السياسي الوحيد الذي كان قائما وقتهاپغير ان ناصر لم يكمل ما بدأه .. ولذلك يقول ثروت عكاشة في مذكراته : "ان ماكان ينتقده عبدالناصر ظل باقيا علي حاله . بل وتحقق بالضبط ما كان يخشاه . فلم يقف طموح الطبقة الجديدة عند حد . حتي غدت سرطانا داخل اجهزة الدولة وحولها . بينما كان عبدالناصر مستغرقا في اعادة تنظيم القوات المسلحة وتسليحها وتدريبها وتوجيه معركة الصمود وحرب الاستنزاف وإنشاء حائط الصواريخ وإدارة جولات السياسة الخارجية حتي وفاته" .. واضيف أنا هنا ان القدر لم يمهل عبدالناصر ليخوض الحرب التي كان يخطط لها لاسترداد الكرامة والأرض . وايضاً لتحقيق ذلك التغيير السياسي الذي كان يتطلع اليه في مصر . رحمه الله.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف