رواية الشاب هشام البواردى «الرجل النملة» الصادرة عن دار العين 2016,كتابة تدعو للتأمل. فهى من ناحية كتابة مألوفة تنتمى إلى نمط واسع الانتشار, من حيث إنها سيرة ذاتية راويها وبطلها كاتبها, وهو أمر شائع فى فن الرواية صار أكثر شيوعاً بين الأجيال الجديدة من الكتاب, ولكن من ناحية أخري, استطاع البواردى فى «الرجُل النملة» أن يحَجِّم ذاته وأن يُفسح المجال للبشر من حوله ليزاحموه فى بطولة العمل, ويحوِّل الذات المركزية إلى عين راصدة وكاميرا تسجيلية تنقل للقارئ الحياة من حولها, بقدر ما تسجِّل ما يخصها, بلغة سرديّة متقشفة لا تعبأ كثيراً بردود أفعال وتعليقات ومواقف الذات المركزية الساردة من الأحداث. فأصدقاء الطفولة والصبا وزملاء الدراسة فى الجامعة أو رفاق السكن فى المدينة الجامعية, والبشر الذين قابلهم الكاتب أثناء عمله صيدلياً فى جدة, كلهم حيوات نابضة مرسومة باحترام لخصوصيتها الإنسانية مهما صغر دورها فى الحكاية. فالرجل النملة يقول فى المقدمة القصيرة البليغة للرواية: يا صديقي.. أنا ضئيل.. أنا تافه! يا صديقي.. أنا عظيم, لدرجة أنى أحمل العالم داخلي, وأمشى به! هنا كاتب يدرك أن أهمية سيرة الذات الفردية تكمن فى أن يكون ناقلاً أميناً لحكاية الدنيا وما فيها ومن فيها, كما رأتها تلك الذات واختبرتها خبرة مباشرة. ولولا قدرة الكاتب على التعاطف الإنسانى لامتلأ العمل بذات متضخمة يدور حولها كل شيء, لكنّ انتباه الراوى صاحب السيرة لما هو خارجه, إضافة لقدرته على رسم الشخصيات بضربات سريعة من فرشاته بملامح معبرة ننفذ منها إلى جوهرها دون وصف مسهب بل من خلال نقل الحدث والحوار فحسب, كل هذا أعطانا فى النهاية حكاية نملة تحمل العالم داخلها وتمشى به فى جلال واتزان. إلا أن هذا ليس كل ما يدعو للتأمل فى هذا العمل. فالجديد حقاً أن البواردى زاوج بين السرد البسيط المتقشف, وبين تقنية غير مسبوقة فى لغة السرد. ففى كثير جداً من مناطق الحكى تتحول اللغة إلى نمط أقرب للغناء, عن طريق تكرار الكلمات والعبارات والجمل، مع بعض التحوير بإضافة كلمة أو كلمتين جديدتين فى كل جملة مكررة. وهو طابع نجده فى الغناء, خاصة الأغنية الشعبية التراثية, من أهازيج الطفولة إلى عديد النساء المتشحات بالسواد عند موت الأحِبّة, وغير ذلك من صنوف الإبداع الفلكلورى مجهول المؤلف، ذى الطابع السيريالى فى كثير من الأحيان. هذا الطابع ينتقل إلى سرد البواردى فى تلك المناطق الغنائية سابقة الذكر, وهو تجديد يتميز بجرأة قد يعدها البعض تهوراً, وأراه أنا تهوراً محموداً؛ لأن التجديد فى الأدب يتطلب أحياناً هذا النوع من الجرأة. وأدعوك عزيزى القارئ أن تطّلع على هذا الكتاب الغنيّ بما يستحق التأمل ويبعث على الدهشة, لتكوّن رأيك بنفسك. ولكن قبل أن أتركك لنفسك, أحب أن أسجّل ملاحظة أخيرة صادفتها فى العديد من الروايات التى صدرت فى السنين الأخيرة فى مصر والعالم العربى بما فيها هذا العمل, وبالذات فى الشهور الأخيرة, وهى ظاهرة الرواية داخل الرواية. ففى روايات مثل «أمطار صيفية» لأحمد القرملاوي, و«إفلات الأصابع» لمحمد خير, و«رحلة داخل فوهة الماسورة» لأحمد الصادق, و«ورّاق الحب» للروائى السورى خليل صويلح, وروايات أخرى لا تحضرنى أسماؤها الآن, تتكرر ظاهرة أن الكاتب أثناء سرد الأحداث يتحدث عن رواية يكتبها أو تكتبها إحدى شخصيات العمل, وقد يتضمن العمل الذى بين يدى القراء فصولاً من تلك الرواية. وأرى أن ذلك مرجعه جنوح فن الرواية المتزايد للتركيب, وفى نفس الوقت تداخل الذات الكاتبة المتزايد مع الحدث الروائي.. ولعل شيوع السيرة الذاتية أو شبه الذاتية يعود لنفس السبب.