جلال عارف
في الصميم .. حربنا الأصعب ضد ثقافة الفساد!!
الفساد موجود علي الدوام. كل دول العالم تشهد ألوانا من الفساد الذي تزداد وطأته حين تتهيأ له الظروف، وحين يكون القانون في إجازة، وتزداد شراسته حين يتم الزواج المحرم بينه وبين السلطة.. كما حدث قبل يناير. الذي تغير الآن هو أن هناك إرادة سياسية لضرب هذا الفساد. وأن هناك رقابة إدارية تقود المعركة لاستئصاله، وأن أحداً لم يعد بعيداً عن سلطة القانون مهما كانت مكانته. وأن هناك إدراكا حقيقياً بأن جهودنا للتنمية أو حربنا ضد الإرهاب لا يمكن أن تمضي إلي غايتها إلا إذا استكملناها بحرب حقيقية ضد فساد نما وترعرع حتي استطاع أن ينخر في جسد الدولة وأن ينهب المال العام وأن يخرب كل شيء في ظل قانونه الخاص الذي يقول فيه إن المال يستطيع أن يفتح له كل الأبواب المغلقة، وأن الراشي والمرتشي ليس مكانهما النار، كما علمنا ديننا الحنيف.. بل مكانهما في الصفوف الأولي حين يحضن الفساد نفسه كما فعل علي مدي سنين أورثتنا كل القبح الذي نناضل الآن للخلاص منه.
في آخر قضايا الرشوة التي كشفت عنها »الرقابة الإدارية» لا تستوقفني فقط هذه الشراهة للمال التي تجعل الناس لا تحمد الله علي ما أعطاها (وهو كثير) بل تمضي في طريق الخطيئة حتي النهاية.. لكن يستوقفني أيضا (كما استوقف الكثيرين) أن تتم بعض حلقات الجريمة في شهر رمضان والمرتشون يعلنون صياهم علي أساس أن هذه نقرة وتلك أخري»!.. بل ان عددا منهم كانوا ـ كما نشر ــ يستعدون لأداء عمرة رمضان، ويستعجلون الرشوة قبل السفر!!
نحن هنا أمام ملمح أساسي في الفساد والذي أورثتنا إياه سنوات التحالف الكارثي الذي نكبت به بلادنا بين فساد سقط حكمه في »يناير» لكنه مازال يقاتل من أجل الصمود ويتوهم بإمكانية العودة! وبين تجار الدين الذين أسقطنا حكمهم في 30 يونيو، ومازالوا يقاتلوننا بإرهاب منحط، محكوم عليه بالفناء مهما تآمر أو تلقي من دعم الأعداء!
تحالف الفساد مع تجار الدين بقيادة الإخوان، لم يكن فقط مجرد مقاعد في البرلمان ولا نفوذ في المؤسسات أو اختراق لأجهزة الدولة.. بل كان ـ قبل ذلك وبعده ـ شراكة في نهب المال العام، وشراهة في الاستحواذ علي مفاتيح الاقتصاد، واستغلالا للنفوذ السياسي من أحد الأطراف والتجارة بالدين من الطرف الآخر.. لضرب كل ما بنته مصر في سنوات النهوض، ولتجريد ملايين المواطنين من كل المكتسبات التي كانت قد تحققت لهم بالعرق والدموع وبأغلي التضحيات، قبل أن يداهمهم عصر السمسرة والتهليب والفساد المجتمعي بالسلطة وبتجار الدين!
هذا التحالف أفرز »ثقافته» الخاصة للفساد. وكان له رموزه الذين اختفي بعضهم، وتواري بعضهم الآخر، ومازالت البقية تسعي في الأرض فسادا. كان كل لص للمال أو ناهب للأرض يحرص علي أن يكون بجواره غطاء من تجار الدين. وكان تجار الدين ـ من الناحية الأخري ـ ينشرون التدين الزائف في المجتمع ثم يستغلونه في نهب أموال الناس والإضرار باقتصاد الدولة. كان كل فريق يحتاج للآخر، وكان تحالف الاثنين كارثة حقيقية بالنسبة لمصر.
في ظل هذا التحالف.. رأينا يوماً شركات توظيف الأموال تأخذ الشرعية من الدولة بعد أن أخذتها من تجار الدين. وكان الريان أو غيره يظهر معلنا عن مشروعاته الوهمية محاطاً بالمسئولين الحكوميين وكبار الإعلاميين والكتاب المحسوبين علي الحكومة، وبعض رجال الدين الذين يصدرون له الفتاوي لخداع الناس وسرقة أموالهم. نفس التحالف كنت تراه مع احتفال مسئول في حزب الفساد نهب ألف فدان من الدولة، ثم أقام مائدة للرحمن وزع فيها بعض رحلات العمرة المجانية، استعداداً لانتخابات قادمة، أو سرقات موعودة!
سقط حكم الفساد في يناير، وسقط حكم تجار الدين في يونيو. لكن المصالح بقيت، وثقافة الفساد مازالت تستخدم لحماية الفساد القديم الذي لا يريد أن يستسلم أو يعيد إلي الدولة ما نهبه منها. وأيضا لإنتاج المزيد من الفساد والفاسدين باعتبار أن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم، ولأن ماكينه الفساد لابد أن تعمل أو تستسلم.. والواضح أن الفساد لم يستسلم، وأنه يقاتل من أجل البقاء، ومن أجل الاحتفاظ بكل أدواته. وبكل مكاسبه. وأنه سيعرقل كل إصلاح منشود، وسيقاوم كل محاولة لتصحيح أخطاء الماضي ونسف القواعد التي قامت عليها دولة الفساد.
أنظر بجدية إلي استهداف وزارة التموين (وبالتحديد هيئة السلع الغذائية) من جانب حزب الفساد والمفسدين. هنا كان أحد المراكز الأساسية للصراع. هنا كانت الدولة توفر بنفسها الغذاء الأساسي لعموم المصريين قبل أن ينقض عليها السماسرة باسم الانفتاح، فكانت النتيجة أن أكلنا الخبز بالحشرات، والدجاج المستورد بعد انتهاء صلاحيته! وهنا كان إجهاض المحاولات المتكررة لتصحيح الأوضاع وإنقاذ المصريين من حيتان الاستيراد والتي شارك فيها ـ للأسف الشديد ـ مسئولون كبار في عهود سابقة تآمروا علي صفقات استيراد اللحوم الأثيوبية، وعلي محاولات ضمان سلامة القمح الذي يكفل رغيف الخبز للفقراء والمستورين.
لسنا أمام قضية رشوة عادية. نحن أمام محاولة لاختراق حاجز الصدأ المفترض أمام شره الفساد الذي لا ينتهي. أعرف أن المعركة هنا ليست سهلة، فالصفقات من أجل توفير الغذاء الأساسي بالمليارات، والفساد مازال قويا، وقدرته علي الإفساد هائلة، واستعادة سلطة الدولة كاملة في هذا المجال أمر ضروري. لأن حصيلة الفساد (التي جربناها سابقا) هي طعام فاسد ونهب للمليارات من المال العام.. لكن الأهم هو أن تبقي لدولة الفساد مواردها، وسطوتها، ونفوذها، وأن تظل قدرتها علي أي إصلاح كما هي، وأن حزبها هو الأقوي.. هذا ما يريده حزب الفساد، وما يجب أن ننتبه إليه جيداً.
ليست قضية رشوة، بل هل جرس إنذار بأن علينا إدراك حقيقة أن حزب الفساد لم ولن يستسلم إلا مرغما، وأن إغلاق »المحابس» في المراكز الأساسية (والتموين في المقدمة) لن يمثل فقط ضربة للفاسدين، بل سيكون أيضا ضربة للإرهاب الذي يقاتله أبناؤنا في سيناء.
الفساد والإرهاب ـ كما أكدنا مراراً ـ وجهان لعملة واحدة والقضية ليست مجرد قضية رشوة بل معركة لا بديل فيها عن الانتصار علي فساد يضرب مسيرتنا كان علي الدوام حليفا لتجار الدين. هؤلاء بفسادهم وهؤلاء بإرهابهم.. وليس علينا سوي أن نقاتل وأن ننتصر علي كل الجبهات، وأن نستأصل الفساد، كما نستأصل الإرهاب. تحية لرجال الرقابة الإدارية ولكل من يحاربون الفساد ـ ولكل من يقاتلون الإرهاب، ولكل من يدركون أن المعركة واحدة، وأن انتصارنا فيها ضرورة حياة لوطن عاني الكثير من تحالف الأشقياء.