يحيي علي
صباح جديد .. الماضي.. لا يموت!
في حياة الأمم والشعوب.. أيام لا تنسي.. تظل مسطورة في التاريخ.. محفورة في الوجدان.. تستوي في ذلك أيام الانتصار.. والانكسار.. حلوها ومرها.. ورغم أن عمري في الخامس من يونيه 67 لم يكن يتعدي الثماني سنوات.. إلا أن في هذه الأيام ارتبطت في ذهني وأنا في عمر زهرة تتفتح بمواقف عصيبة ورعب وفزع.. لم تفارق النفس مع لحظات الفرحة بانتصار السادس من أكتوبر.
***
في هذه السن المبكرة.. لم نكن ندرك تماماً دقائق ما يدور حولنا ولا التبعات الكبري التي أعقبت حرب الخامس من يونيه 67 تلك النكسة الكبري.. التي زلزلت الأمة العربية بأسرها لكن عشنا الآثار المفزعة لنسف إسرائيل لمدرسة بحر البقر الابتدائية بالشرقية.. رداً علي العمل البطولي لرجالنا الذين دمروا ونسفوا المدمرة الإسرائيلية "إيلات".. فردوا بخسة ونذالة بإسقاط القنابل علي أطفال مدرسة بحر البقر وهم يلهون ويلعبون أثناء الفسحة.. فاختلطت دماء الأطفال الأبرياء بالكتب والكراريس.. في مشهد قاس وانتهاك غير غير إنساني لبراءة تلاميذ في عمر الزهور لا يدركون بعد خسة ونذالة عدو غادر.. ومحتل حقير.. كنت في تلك الآونة في مدرسة الدمرداش الابتدائية بشارع رمسيس أمام الكاتدرائية.. أصابنا الفزع من هول جريمة مدرسة بحر البقر وكانت كلما مرت طائرة فوقنا ترتعد فرائصنا.. ننتظر أن يسقط فوقنا العدو بتلك القنابل الغادرة التي أصابت أقراننا في بحر البقر.
.. ظلت هذه المخاوف المفزعة والمشهد القاسي لجثث تلاميذ صغار تحت أنقاض الغدر الإسرائيلي لوحة جاثمة علي أعيننا.. حتي جاء يوم السادس من أكتوبر الذي بدَّد كل المخاوف.. ورسم لوحة من الفخر والإعزاز.. محت لوحة المخاوف والفزع التي تركتها نكسة 5 يونيه.
***
لم تكن إسرائيل التي غرسها وعد بلفور منذ 1917.. وظهرت علي سطح الأراضي الفلسطينية 1948.. لم تكن تحلم بأن تتربع علي المساحة التي احتلتها في 67.
.. وكان هاجس التشريد يطارد قادة إسرائيل قبل شعبها.. فالأرض لا تستقر أبداً تحت أقدام محتل مغتصب.. وتميد دائماً بالمحتل.. وينتظر دوماً لحظة الانهيار والرحيل.. لذلك منذ نشأة هذه الدولة المحتلة للأراضي الفلسطينية.. قال بن جوريون رئيس وزراء إسرائيل في تلك الحقبة التي نشأت فيها.. قالت لا يعنيني وجود وطن لليهود.. ولكن الأهم أن تبقي الأقوي.. وتملك ما لا يملكه العرب.. فسعي لامتلاك النووي والذري.. وساعدت فرنسا بدعم كبير في تحقيق الحلم الإسرائيلي.. قوة الردع التي سعي اليهود لامتلاكها.. بسط نفوذهم في المنطقة تحت الحماية الأمريكية.
***
ظلت إسرائيل قبل 5 يونيه 67 في عزلة.. دويلة هزيلة.. مهما امتلكت من دعم غربي.. كانت جولدامائير في تلك الحقبة تنام تنتظر ــ الكابوس المزعج ــ علي حد قولها في مذكرات كثيرة صدرت عن جنرالات الدولة العبرية تنتظر الكابوس الذي يرحل بها خارج الأراضي الفلسطينية.. لكن للأسف الشديد.. كان يوم الخامس من يونيه هو الذي صنع دولة إسرائيل التي عرفت حجمها الطبيعي بعد نصر السادس من أكتوبر.
***
ربما لا يعرف حلاوة النصر.. وقيمة الإرادة.. وقدرة ومكانة نصر أكتوبر 73.. إلا من ذاق مرارة وقسوة الأيام الصعبة عقب نكسة يونيه 67.
لم تكن حرب السادس من أكتوبر مجرد حرب لاستعادة الأرض.. أو رد كيد عدو غادر مغتصب.. وإنما تتجاوز هذه المعاني بكثير.. حرب أنهت أسطورة العدو الذي لا يقهر.. كسرت غرور وكبرياء وهمي تملك العدو.. لكن جاءت شجاعة الجندي المصري وبسالته وإرادته الفولاذية وعزيمته التي لا تلين لتؤكد أننا خير أجناد الأرض.
جاء نصر السادس من أكتوبر.. ليعيد العزة والكرامة والكبرياء.. للأمة العربية بأسرها.