فى مفاجأة سارة من العيار الثقيل، كشف محمد سعد الدين رئيس جمعية الغاز السائل عضو مجلس إدارة اتحاد الصناعات، عن أن احتياطات مصر من الغاز الطبيعى تتجاوز 400 تريليون قدم مكعبة، 200 تريليون شرق البحر المتوسط ومثلها فى شمال البحر الأحمر، بناء على نتائج مسح سيزمى قامت به شركات عالمية.
لو صحت تلك المعلومات فإن الشعب المصرى الذى يعانى أوضاعا معيشية واقتصادية قاسية يكون على موعد مع الثراء والتنمية والازدهار السريع، لكن هذا الثراء لن يحدث إلا بشروط وسياسات رشيدة، تدرك أهمية وجود هذه الثروة الهائلة بأيدى المصريين وتعى خطورة المطامع المتربصة على المسرح الإقليمى والدولى، من جانب القوى المعادية والمنافسة.
ولاشك فى أن وجود هذه الاحتياطات الضخمة يزيح عن كاهل الدولة ثلاثة مليارات دولار فاتورة استيراد الغاز من الخارج، ويعزز مساعى القيادة السياسية لتحويل مصر إلى المركز الإقليمى الأكبر لتداول الطاقة بالشرق الأوسط، لاسيما بعد توقيع اتفاق الشراكة الاستراتيجية فى الطاقة بين مصر والاتحاد الأوروبي، أبريل الماضي، واتفاقات مماثلة مع قبرص واليونان وغيرهما، لنقل الغاز إلى مصر ثم إعادة تصديره، لأنها الوحيدة بالمنطقة التى تملك بنية تحتية لإسالة الغاز، وقبل هذا تحوز موقعا استراتيجيا عبقريا حاكما، بين أفريقيا وآسيا وأوروبا، قريبا من أسواق الاستهلاك العالمية.
لا تنفصل التنمية الشاملة عن السيادة والاستقلال الوطنى، خاصة فى دولٍ تعوم فوق ثروات استراتيجية، فحين تعثر دولة ما على ثروة طبيعيّة كالغاز، يكون أمامها عدة خيارات: الأول أن تبقى ثرواتها فى باطن الأرض للأجيال المقبلة، الثانى أن تصدّرها مقابل مال، كى تتمكّن من استيراد ما لا تقدر على إنتاجه، الثالث أن تستهلكها بالسوق المحلية لتوليد الطاقة وإنتاج السلع.
مصر اليوم لا تملك ترف الخيار الأول، بينما يبدو الخيار الثانى مرجحا بشدة، بالنظر إلى العجز الدائم فى الموازنة وارتفاع الدين الخارجى وفوائده، وسوف يشكل تصدير الغاز مصدرا للعملات الصعبة، ولردم العجز وكبح متوالية الديون الخانقة، وتسريع وتيرة التنمية بالإنفاق على المشروعات المختلفة، بالإضافة إلى رفع الجدارة الائتمانية، لكن الخيار الثالث يعد أفضل خيار ممكن لمصر، بمعنى استثمار ثروة الغاز الهائلة فى توليد الطاقة النظيفة ومد شبكة استهلاك داخلية وإنشاء صناعات متنوعة تمثل «قيمة مضافة»، مثل الأسمدة والبتروكيماويات وغيرها، أى إيجاد مصادر إنتاج مستديمة وتحويل الاقتصاد الوطنى إلى النمط الإنتاجى والتصديرى للمنتجات الصناعية الوسيطة والنهائية، بدلا من تصدير الغاز لتمويل الاستيراد وإشاعة نمط استهلاكي، يجلب رخاء مؤقتا يمنح شعورا زائفا بالنّجاح، ويوما بعد يوم تتبدد الثروات مهما تكن ضخامة مخزوناتها، هذا هو الفارق بين الاقتصاد الألمانى أو اليابانى القائم على إنتاج السلع والقيمة، وبين الاقتصاد الفنزويلى أوالنيجيرى القائم على تصدير النفط الخام، ومن ثم غياب التنمية والتسرّب المستمرّ للثروة من البلد إلى خارجه.
لأجل ذلك ترتبط أسئلة: (لماذا وماذا نصدّر؟، ولماذا وماذا نستورد؟..) بشكل وثيق، بأى خيار تلجأ البلدان فى خطّة التنمية وتوظيف الثروة وأولويات إنفاقها واستثمارها.
إن القاهرة مدعوة إلى تحسين بنود عقود التنقيب والاستخراج مع الشركاء الأجانب، لمصلحتها بالطبع، خاصة بعد اكتشاف حقل «ظهر» العملاق، إن ذلك أمر حاسم فى صنع معادلات القوة والنفوذ فى الحاضر والمستقبل!.
إن أهميّة الغاز إقليميا ودوليا، لا تقتصر على اعتباره «سلعة» ينتج عن بيعها أموال ضخمة، بل تنبع الأهمية الاستراتيجية للنفط والغاز أيضا من أن القوى الكبرى تطمح للاستحواذ عليهما؛ لأنهما الدم الدافق فى عروق اقتصاديات صناعية لا تملك احتياطات طاقّة، ومن هنا يمكن تفسير التطورات المأساوية بالشرق الأوسط، بدءا من غرس الكيان الصهيونى فى قلب العالم العربى، وصولا للقلاقل والاضطرابات المتواصلة فى تلك الدول من المحيط إلى الخليج، نتيجة سعى القوى الدولية للهيمنة على الإقليم وطرد القوى المنافسة، بعنف لا يعرف المهادنة، والقبض على ثروات ورساميل العرب وإعادة ضخها فى شرايين المجمع الصناعى والمالى والعسكرى للغرب أو الشرق على حد سواء.
إنه نوع من التحايل العنيف للغاية، لإخراج الثروات من أيدى أصحابها، وإدارتها وفق حسابات تتناقض مع مصالحهم وحقوقهم فى التنمية الحقيقية والاستقلال الوطنى، على مصر أن تتحسب لذلك من الآن، وإنى لأظنها فاعلة، فالفرصة الذهبية سانحة برغم العواصف، لاسيما لو تأكد وجود تلك الكنوز والثروات الهائلة، بجوف بحرها وبرها.