الأهرام
د. صبحي عسيلة
العقد الاجتماعى للولاية الثانية
تشير ردود الفعل الإيجابية من مختلف القوى والتيارات السياسية على الكلمة التى افتتح بها الرئيس عبد الفتاح السيسى ولايته الثانية إلى الفارق الكبير بين رؤية وإستراتيجية الرئيس ورؤية هؤلاء الذين طالما انتقدوا المنهج الذى اتبعه الرئيس منذ اليوم الأول فى سدة الحكم. هذا الفارق هو المسافة بين من ينطلق من رؤية طويلة الأمد تقوم على تحديد الأولويات والمراكمة على ما تم بناؤه والمعرفة الدقيقة لحدود القدرات والإمكانات المتاحة وبين أصحاب النظرة قصيرة الأمد وعدم تقدير معطيات الظروف الراهنة وكأن المسئول يعمل فى فراغ بمعزل عن التحديات التى تفرضها البيئتان الداخلية والخارجية. فالخلاف على المنهج الذى اتبعه الرئيس والذى استهدف فى المقام الأول ضرورة تثبيت أركان الدولة والحفاظ عليها ومواجهة محاولات إفشالها قادته تيارات قللت من عمق إدراك الدولة لمتطلبات تنمية مستدامة حقيقية فى مختلف المجالات، وشككت فى وجود رغبة حقيقية لدى الدولة فى الاستفادة من كل الأفكار التى تتبناها أطراف أخرى خارج دائرة السلطة، بل وادعت أن الدولة تقصى كل هؤلاء!
كلمة الرئيس الافتتاحية للولاية الثانية يجب أن يتم التعامل معها على أساس أنها منهاج عمل أعاد ترتيب الأولويات بشكل يتفق إلى حد بعيد مع ما كان يطرحه الذين تصوروا أن الدولة أقصتهم وأنها لم تأبه بما يقولون، دون أن يعنى ذلك بطبيعة الحال اعترافا بأن ثمة خطأ قد وقع فى الولاية الأولي. فالحقيقة أن إعادة ترتيب الأولويات يؤكد نجاح التعامل مع التحديات التى حازت الأهمية فى الولاية الأولى بما يبرر الانتقال إلى الأولويات التالية أو رفعها إلى مقدمة الأولويات. والحقيقة أيضا أنه ما كان ممكنا الانتقال إلى الأولويات الجديدة دون النجاح الذى تحقق فى التعامل مع أولويات الولاية الأولي. فالموضوع أشبه بالمدير الفنى لفرق كرة القدم الذى يدرك جيدا إمكانات لاعبيه، والأهم أنه يدرك أن المباراة من شوطين مدة كل منهما خمسة وأربعون دقيقة، ويبنى خطته على ذلك الأساس مهما طالبه الجماهير بضرورة الهجوم منذ اللحظة الأولى ومهما اقترح عليه خبراء الكرة ومحللو الفضائيات دون أن يعنى ذلك أنهم على خطأ. فالمسألة فى النهاية اختيارات مبينة على معلومات لا تتوافر لأحد بأكثر مما تتوافر للمدير الفنى أو لمن يتولى موقع المسئولية. وفى هذا السياق جاءت إحدى الجمل المفتاحية فى خطاب الرئيس بقوله «والآن وقد تحققت نجاحات المرحلة الأولى من خطتنا فإننى أؤكد لكم بأننا سنضع بناء الإنسان المصرى على رأس أولويات الدولة خلال المرحلة القادمة يقينا منى بأن كنـز أمتنا الحقيقى هو الإنسان، والذى يجب أن يتم بناؤه على أساس شامل ومتكامل بدنيا وعقليا وثقافيا بحيث يعاد تعريف الهوية المصرية من جديد بعـد محاولات العبث بهـا».
إذن بناء الإنسان المصرى أو الاستثمار فى البشر كما يفضل البعض هو العنوان العريض فى الولاية الثانية للرئيس بكل ما يتفرع عنه أو يجب أن يتفرع عنه من اهتمامات وأولويات حددها الرئيس بقوله «وستكون ملفات وقضايا التعليم والصحة والثقافة فى مقدمة اهتماماتى وسيكون ذلك من خلال إطلاق حزمة من المشروعات والبرامج الكبرى على المستوى القومي». مشكلة المجالات الثلاثة التى حددها الرئيس أنها مجالات خدمية أى لا تدر أرباحا بل إن تحقيق نتائج ملموسة فيها يقتضى وضع استثمارات كبيرة للغاية، والأهم أن اثنين منها على الأقل هما التعليم والثقافة لا تتوقف نتائجهما على رغبة وقدرة الدولة فقط ويستغرق الوصول إلى مرحلة جنى الثمار فيهما وقتا طويلا. ومن ثم فإنه بدون مشاركة مجتمعية حقيقية فى مجالى التعليم والثقافة ستظل النتائج الممكن تحقيقها دون المأمول. وبكل تأكيد فإن اقتحام مجالى التعليم والثقافة دونما إستراتيجية واضحة متوافق عليها سيعنى دورانا فى الحلقة الجهنمية التى دارت الدولة فيها عبر العقود الماضية. وهو الأمر الذى يقتضى حتما طرح إستراتيجية التعامل معهما لحوار مجتمعى حقيقى يستهدف تأمين أكبر قدر ممكن من التوافق على ملامح تلك الإستراتيجية. كما أنه لابد من الاجتهاد فى وضع صياغة محددة لدور المؤسسات المختلفة فى الدولة ومنظمات المجتمع المدنى لانجاز تلك الإستراتيجية انطلاقا من أنها تمثل مشروعا قوميا فعليا للمصريين. بل لعله المشروع الأكبر الذى يحوز توافق المصريين بمختلف أطيافهم وانتماءاتهم. وفى هذا السياق فإن الدعوة لمؤتمر قومى حقيقى للتعليم والثقافة ومعهما الصحة يجمع كل المهتمين والمتخصصين فى تلك المجالات لبلورة سياسة تعليمية وثقافية متكاملة تبدو الطريق الآمن للتعامل مع تلك الملفات. وليكن ذلك هو العنوان الثانى فى كتاب الولاية الثانية. وإذا كان الرئيس السيسى قد أشار عرضا إلى موضوع العقد الاجتماعى فإنه فى الحقيقة يمثل أيضا عنوانا عريضا ومهما فى الولاية الثانية. فالعقد الاجتماعى يحدد العلاقة بين الحكومة والمواطنين، وتوقعات المواطنين من الحكومة، وكيف تتعامل الدولة بصفة عامة مع مواطنيها. ولسنوات طويلة ساد عقد اجتماعى يقوم على سلبية تامة من المواطنين مقابل تدبير الحكومة لكل شئونهم، فالحكومة تتولى أمر التعليم والترفيه والاقتصاد وفرص العمل وتحدد أساليب الحراك الاجتماعي. بمعنى آخر قام العقد الاجتماعى فى مصر على أن تكون الحكومة مسئولة عن كل ما يخص المواطنين من لحظة ميلادهم وحتى وفاتهم. هذا العقد تغير إلى حد بعيد خلال السنوات الأربع الماضية وأصبح قائما على كما قال الرئيس المصارحة والشفافية وعدم تخدير الشعب واقتحام المشكلات، ومواجهة التحديات من خلال مشاركة الشعب وقدرته على تحمل تكلفة الإصلاح، وهو عقد ثبت بالدليل القاطع أن الشعب مرحب وملتزم به وقادر على حمايته. وهو الأمر الذى يمثل الرافعة أو الضمانة الأساسية لنجاح أى نظام سياسي. وفى إطار ذلك العقد الاجتماعى وضمانا لنجاح المشروع القومى الجديد المستهدف الإنسان المصرى تعليما وصحة وثقافة فإن من المهم التفكير فى آلية مختلفة لتمويل وتنفيذ ذلك المشروع من قبيل إنشاء هيئة مستقلة للإشراف عليه تدعمها ميزانية الدولة من خلال بند يمكن أن يطلق عليه «السلام الاجتماعي» يشمل كل أوجه الدعم فى الموازنة العامة للدولة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف